د. محمد بن إبراهيم الملحم
وردني مقطع صوتي لأخ تربوي فاضل، يوجِّه فيه رسالة لمعالي وزير التعليم، ويثني عليه بوصفه وزيرًا وطنيًّا، يتوق إلى إحداث الفرق كما عُرف عنه، آملاً بأن تلتقي إنجازاته مع طموحات الناس داخل الوزارة أو خارجها، الذين أضنتهم التجارب والوعود والمحاولات والمبادرات المتكررة. والزميل الفاضل لا أعرفه، لكنه عرّف بنفسه «إبراهيم البرادي» بوصفه واحدًا من مخضرمي الوزارة الذين عرفوا وخبروا العمل القيادي ومشكلاته؛ فكان مشرفًا في البرنامج الوطني لتطوير التعليم، وقبله في النشاط الطلابي، ثم تقاعد بعد مسيرة 25 سنة. وقد أشار إلى عدد من الأمراض التي أصابت الجسد التعليمي من اهتمام بالشكليات، وعدم المصداقية في التقييم، وركود بعض الجوانب التي تجاوزها الزمن بالتقنيات الحديثة، مثل زمن الحصة الطويل. وطالب بالاهتمام بثلاثة عناصر؛ ليستقيم حال التعليم، أولها مدير المدرسة بحسن الاختيار، وإعطاء الصلاحيات، وإكرامه بالحوافز، وتكريس المحاسبية. وثانيها المعلم بتعزيز دافعيته للتعليم. وثالثها - وهو الأهم - وقد صنفه كعنصر متحكم في العنصرين الأول والثاني لإظهارهما بغير حقيقتهما، هو القيادات العليا في إدارات التعليم، واقترح علاجًا لشأنهم بوضع معايير تقييم أداء دقيقة بواسطة لجان «نزيهة»، ويتم سنويًّا إعفاء أقل من 10 % في تقييم الأداء؛ وبهذا يتم القضاء على الضعف القيادي (خلال عشر سنوات!). كما طالب بإنشاء إدارة مراقبة الجودة التي تراقب مسيرة التعليم باستمرار، وترتبط بمعالي الوزير مباشرة... إلخ. ثم تحدث عن الطموح إلى أن يسفر الأداء المتميز للوزارة عن رفع مستوى التحضر والوعي دون أن يقدم حلاً أصيلاً لإشكالية أشار إليها، وهي أن الشارع والبيت وغيرهما يوازيان المدرسة في زرع السلوك وتأكيده لدى الطالب، مكتفيًا بالقول إن الشارع نفسه منتج من منتجات الوزارة في السابق. ولقد تحدثت عن هذه النقطة تحديدًا في مقالتي الأسبوع الفائت حول علاقة المدرسة بالبيت، وضرورة أن تقوم الوزارة بدور في تعزيز التكامل مع الجهات الحكومية الأخرى (وغير الحكومية) لاستهداف السلوك خارج المدرسة بدءًا من التوعية، وتسويق الفكرة والأسلوب، وانتهاء بالقوانين الحاكمة التي تعاقب وتؤدب بغض النظر عن العمر والمناسبة.
جذبني في هذا المقطع الذي سمعت وقرأت أمثاله سابقًا سمة مشتركة بين الجميع، هي إيمان المؤلف بأن المسؤول الأول (الوزير، المدير، الرئيس) بيده كل حلقات التغيير، ويملك أن يحدثه أو يمنعه.. فمثلاً عندما يقول الزميل الفاضل لمعالي الوزير «شكِّل لجنة [نزيهة] لاختيار القيادات العليا» فهذا يعني أن الوزير يعرف مَن هو النزيه، ومَن هو دون ذلك! وهذا غير صائب البتة.
وعلى الصعيد العملي، فإن صاحب الفكرة نفسه لو كان هو الوزير فلن يتمكن من ضمان هذه النزاهة إلا إذا اختار أناسًا يعرفهم هو شخصيًّا. وهنا تظهر أزمة الصراع بين الدور الشخصي والدور العلمي في الممارسة القيادية، وهي مسألة لا يفطن لها كثير من الناس. ويدخل في الإطار نفسه تصوُّر أن الوزير أو الرئيس يملك منح الحوافز كما يشاء؛ وبالتالي نتصور أن الفئات المحبطة التي تعمل بجد، ولها تأثير مهم وحساس في العملية التربوية، يستطيع الوزير أن يحدث أثرًا إيجابيًّا فوريًّا لديها لتُقبل على العمل، بل يتنافس إليه آخرون ربما أفضل منهم بمجرد «جرة قلم» لتنظيم جديد في منح الحوافز، ورفع الدافعية.. إلخ، بينما في البيئة الإدارية المركزية التي فيها تحكم مثل هذه الشؤون لجان عليا وعلاقات مالية بين وزارات مختلفة.. فإن دور الوزير لا يتعدى الطلب والإقناع والمتابعة.
هذا التصور عن الوزير (أو أي رئيس) وقدراته الجبارة (نموذج الوزير السوبرمان) ظاهرة واضحة بين جماهير الناس، وكذلك المثقفون بتفاوت نسبي، ولا يسلم منها إلا من تسلَّم عملاً قياديًّا بصلاحيات موسعة، وحاول أن يُحدث تغييرًا شاملاً (ولا ينطبق الأمر على من لم يحاول طبعًا)، حينها سيعلم إلى أي مدى يكون التغيير «الشامل» بطيئًا ومحفوفًا بالمشكلات، ويحتاج إلى رعاية واهتمام مباشر، مثله مثل النبتة التي لا تقاوم الرياح.
وأدبيات التغيير متخمة بكثير من الحديث حول هذه القضية، ولكن -مع الأسف- من الواضح أن حظها من القراءة والاطلاع لدى بعض القياديين المخضرمين ضئيلٌ، وربما كان ذلك سببًا في كون الاقتراحات غير مشجعة على القراءة لمعارضتها أبجديات كان يمكن أن يدركها الكاتب بافتراض خبرته واطلاعه.
شكرًا لكل من يكتب ويرسل ويقابل ويحاور.. ولكن لنحاول جميعًا -وأنا أولكم- أن نكون منطقيين، ونطلب الممكن.. ولكي فعلاً نتأكد أننا لم نطلب إلا الممكن يجب أن نتعلم أولاً ما هو الممكن.. أليست السياسة هي: فن الممكن؟