د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** بمقدار ما لاقت الدعوةُ إلى استعادة التأريخ تهميشًا في زمنٍ مضى انطلاقًا من أهمية قراءة الحاضر واستشراف الغد بديلين عن الإبحار في الماضي واستدعاء حوادثه، إلا أنها لم تمتْ بل تصدرت ولكن بغير الصورة التي ارتآها من بثَّها زمنًا ظنَّ فيه أن للتأريخ قراءةً واحدةً ثابتةً لا تتبدل، وناتجُها -كما افترض- بثُّ روح العزةِ والقوةِ في أوقات الهوان والخواء.
** ظن الماضويّون شيئًا من هذا فاستسهلوه واستلهموه، وكثفوا فيه التأليفَ والتدريس والخُطب، وربما أيقنوا أن روايات التأريخ ثوابتُ لا يمسُّها تنازعٌ ولا يحدث حول تبنّيها نوازع، واقتنع بها جيلٌ أو أجيالٌ عاشت الحلم فعشيت به، ثم استيقظت فوجدت من يشكك في رموزها الذين أورثوها أحاسيسَ مورقةً في زمنٍ مقفر.
** حين كتب قسطنطين زريق 1909-2000م كتابه الذائع: (نحن والتاريخ) فقد اعتقد أن «في الرجوع إلى الماضي خلاص المجتمع وانتقاله إلى ما هو أفضل»، ثم تغير توجهه فأصدر كتابه: (نحن والمستقبل) مقتنعًا أن من المهم «فهم الواقع والمستقبل والاستيحاء من الماضي بما يخدمهما».
** جاءت نظريته مقنعة؛ فالماضي ليس واحدًا بل مواضٍ عديدةٌ وفق مذاهب أربابها واتجاهاتهم وأدلجاتهم، والواقعُ يشهد بهذه التعددية الضدّية التي أحالت شخوص التأريخ ونصوصه إلى تجاذباتٍ عابثةٍ غير عابئة بمدرسة الماضويين وغاياتهم، والمفارقة -اليوم- تنامي عدد الحكَّائين لكل حكاية حتى تبعثرت الرؤى وتصارعت التفسيرات، وصار البطلُ عند فئامٍ باطلًا عند آخرين.
** ولعل مثلًا سريعًا حول شخصية (صلاح الدين الأيوبي) يُرِي افتراق المؤرخين «ومن يظنون أنفسَهم مؤرخين» بين من علَوا به فوق الذرى ومن أنزلوه الثرى؛ فهل نقف عند رأي القرن السادس الهجري مع «ابن الأثير» في «الكامل» وقد كان زنكيَّ الهوى فقال وتقوَّل؟ أم «يوسف زيدان» -في القرن الخامس عشر الهجري- وهو ذو هوى فتطاول وتأوَّل؟ أم ذيول من قزَّم أحجامَهم وكاد يلغي وجودهم فأهملوا مزاره وتجاهلوا مساره؟ أم أولئك الذين أشغلهم مذهبه وتداخلوا في تفاصيل سلفيته وأشعريته أو نفيه وإثباته فأبرزوا رأي الفخر الرازي في «أساس التقديس» وردَّ ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية»؟ أم نضع هذا كلَّه في ميزان القراءة الواعية المُنصفة ونحن مطمئنون إلى أن عين الرضا كما عين السخط لا تصنعان حقيقةً كما لا توثقان تأريخًا، ومتى نقف عند إشراقات الآتي وانطفاءاته وفقًا لقوانين الزمن ونكتفي من الماضي بدلالاته العامة التي قد تقودنا إلى تصحيح خطوط اليوم وخطوات الغد؟ وهل نحن حين نفتش في زوايا الأمس واثقون ألا أحد سيفتش في زوايانا وخبايانا عبر انتقائيةٍ غير عادلة فينتصفون إذ لم نُنصف؟
** الشخوص التأريخية هم الأفراد العاديون؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فلا يرتقون درجة التقديس ويعوذون بالله من التدنيس، ونتلو: «ويلٌ للمطففين».
** التأريخُ يُنكر رواتَه.