د. محمد عبدالله العوين
اركب معنا إلى مكتبة الثقافة لنضع كراتين الكتب هناك ثم نعيدك إلى معهدك؛ كان حسن الخليل وهو قائد سيارة «البيجو» يتحدث بكلمات سريعة عجلة على نقيض أخيه الأصغر خليل الذي يتحدث ببطء وترفق، وقد أحببت الاثنين وارتحت لهما؛ بل أعجبت بهما ورأيت فيهما شابين مثقفين ثقافة عالية وقارئين بنهم شديد ويحملان هما رفيعا وجادين بعيدين عن فئة كبيرة من الشباب منشغلة بتضييع الوقت وصرفه في اهتمامات عابثة، رأيت فيهما وأنا أبحث عن القدوة والمثل الجد والطموح والكرم وخدمة الصديق والتفاني في راحة من يصحبهم.
حين انطلقت السيارة إلى المكتبة وهي على بعد دقائق من منزلنا استعدت اللقاء الأول بهما في مزرعتهما في «الخضارية» في صيف عام مضى يقضيانه بين أهلهم بعد أن تغلق الجامعات أبوابها، كان مجلسهما في فضاء المزرعة المفتوح تحت ظل مجموعة أشجار ملتفة بين ليمون وتين وعنب؛ فكانت أشبه بالعريش المظلل وبجانبه جدول ماء لا يكاد يسمع له خرير ينساب بين الحقول حين تبدأ ماكينة استخراج الماء تصدر صوتها المتقطع ثم المتسارع بعد أن تسخن وتشتد في الدوران.
كنت مأخوذا بذلك المجلس الجميل الذي توافرت له كل أسباب الاستئناس والجذب؛ فلم يكن مجلسا تقليديا معتادا؛ بل كان غريبا على البيئة الاجتماعية آنذاك، فما عهدت جلسة يدور حديثها عن الكتب أو القراءات أو الأفكار أو التيارات أو التاريخ إلا في مجلس العريش هذا بين كرم النفس وأدب الدرس وجد التناول وسماحة الخلق وأريحية التعامل وعلو الهمة.
اليوم سيجد شباب مدينتي القارئ ما يعشقونه من كتب التاريخ والأدب والفقه والمذاهب؛ ولكن دكان المكتبة الصغير يضيق بحمولة المعرفة العظيمة هذه التي أفاضت بها دار اللواء، عشرون كرتونا كبيرا تزاحمت وتراصت وعلا بعضها فوق بعض، فتحت واحدا ثم ثانيا ثم لاحقني الوقت فقد اقتربت الساعة عند السابعة موعد الحصة الأولى في المعهد، وشعر الجميع بقلقي وحيرتي بين الاطلاع على البضاعة النفيسة والإسراع لحضور الحصة الأولى قبل السابعة، فبعدها سيغلق باب المعهد ولا يمكن الدخول إلا بإذن ومحاسبة من مدير المعهد الأستاذ الحازم محمد بن حمد الشثري، ولأنني أسهم بشيء من الجهد في أنشطة المعهد الثقافية كالإذاعة الصباحية والحفلات ومكتبة المعهد أحظى لديه بمنزلة جيدة لا أود أن تتأثر أو تتغير، كان الباب على وشك أن يغلقه الحارس الطيب الذي يبش ويهش في وجه كل طالب وكأنه أب لجميع الطلاب، قدم في السيارة وقدم على الأرض، ودعتهما وشعرت أنني أعرف صاحب مكتبة اللواء عبد العزيز التويجري من سنوات وليس ساعات، وانعطفت سيارتهم عائدة إلى الرياض.
وبين الخطوات الراكضة والصاعدة إلى الدور الأول في المعهد تداعت لي صور إعجاب بمن أمد المكتبة بهذا الكم الكبير من الكتب والجهد الذي بذل في الشراء والنقل والسفر ثم العودة ثانية خلال أربع وعشرين ساعة فقط، لم أستطع إخفاء مشاعري فانعكست علي إشراقا وابتساما لكل من ألاقيه أو أصافحه.. يتبع