محمد آل الشيخ
عنوان مقالي هذا كان عنوان كتاب صدر في منتصف الثمانينيات من العقد الميلادي الماضي، للدكتور فرج فودة، كان في حقيقته رداً موضوعياً مؤصّلاً على كتاب أحد الإرهابيين حينها الذي سماه (الفريضة الغائبة)، وهو الكتاب الذي أسس للإرهاب، على اعتبار أنه (جهاد)، وأنه فريضة إسلامية واجبة، جرى تغييبها، وهذا ما عانى العالم من أقصاه إلى أقصاه منه إلى يومنا هذا. وفي تقديري أن كتاب الدكتور فر ج فودة (الحقيقة الغائبة) كان من أهم الكتب التي صدرت في القرن العشرين، والذي ملأه بالحقائق التاريخية التي كشفت حينها بوضوح تاريخاً كان يسعى المتأسلمون المسيسون حينها إلى طمسه عن العامة، وانتقاء ما يدعم توجهاتهم لنسف الدول من خلال تكفيرها بحجة أنها لا تطبّق الإسلام، ولا تُحكِّم الشريعة الإسلامية؛ كما أثبت الكاتب أن العصور الإسلامية السالفة تتواكب في أحكامها وسياساتها لمقتضيات المصلحة، بل وأحياناً كانت تحكم بالأهواء ولأسباب قبلية أو أسرية أو عنصرية وتهمش الشريعة. ولأن المتأسلمين عجزوا عن الرد عليه وحواره وتفنيد حججه وأدلته وأخفقوا في ذلك إخفاقاً شنيعاً، لجأوا إلى حيلة العاجز المهزوم ضعيف الحجة، وهي (اغتياله) وفعلاً اغتالوه عام 1992، لكن اغتياله، وتغييبه، لم يغيِّر من تلك الحقيقة التي حاولوا تغييبها شيئاً، واتحد العالم كله في العقد الثاني من الألفية الثالثة على حرب ما حذَّر منه ذلك الكاتب الفذ، وعملوا على اجتثاث أصوله، التي جسدتها أخيراً حركة (داعش) الإرهابية، وهي الحركة التي اتخذت من كتاب (الفريضة الغائبة) منهجاَ، وحاولت تطبيقه على أرض الواقع.
فرج فودة في كتابه الذي اغتيل من أجله، لم يأت بجديد، ولم يخترع بدعة، لكنه ذهب إلى كتب التاريخ الإسلامي المعتمدة لدى المسلمين، وقرأها بعناية وأمانة، وأخرج من محتوياتها ما يثبت أن (دول الخلافة)، التي يحتج بها المسيسون المتأسلمون تحمل الصالح والطالح، وأن تلك المجتمعات التي يصل بها المتأسلمون إلى درجة (التقديس) ليست كذلك، ففيها من الانحرافات والموبقات، وكذلك اجتهادات الرجال غير ما يصورونه لنا على أنه شريعة ربانية. ولأن أغلبية العرب الكاسحة لا يقرأون، وتكتنف ثقافة أغلبية أفرادهم الأمية والشفاهة والسماع دون القراءة، ولا يكترثون بالتحقق مما يسمعون، أو (الشك) فيما يقوله مشايخهم لهم، تمكَّن هؤلاء الانتهازيون المتأسلمون من استقطاب كثيرين، وصدقوا ما يقولون، بل ووصل بهم التصديق إلى درجة (القداسة)، التي تجعل كل من شكك في ما يقولون، أو حتى ناقشهم، هو في قواميسهم وقواميس أتباعهم ضال مضل، ويعمل على الإساءة للدين الحنيف، أو أنه عميل خبيث للأجانب وسفاراتهم في بلداننا.
ذهب فرج فودة شهيداً إن شاء الله، وجاء عصر ثورة المعلومات، ووسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها؛ وتسنّى للشعوب أن يقرأوا ما كان يخفيه المتأسلمون عنهم، ففي (اليوتيوب) - مثلاً - أصبح بإمكانك وبسهولة أن تطلع على ما تريد وقتما تريد، وتسمع ما يقوله هذا وما يرد عليه ذاك، والحكم بين القولين هو عقلك ومقاييسك المنطقية، وتم نقد التراث الموروث بعقلانية بعد التخلص من العواطف، والتشكيك في مروياته من منطلق نقدها نقداً علمياً، حتى أكاد أجزم أن فرج فودة لو كان حياً، و أصدر كتابه (الحقيقة الغائبة) اليوم فلن يجد له من الصدى والقراء والمتابعين ما وجده حين صدور كتابه. وأكاد أجزم - أيضاً - واثقاً بما أقول أن كل هذه الضجة التي يثيرها البعض على ذلك النقد العلمي والعقلاني التي تتعرّض لها الكتب الموروثة اليوم، لن تجد لها لو صدرت بعد عشرين سنة من يقرأها، فمثلما ساهم اختراع (المطبعة) في أواخر القرن السادس عشر الميلادي في إيقاظ وتنوير أوروبا، ومنعت رجال الدين من احتكار العلم والمعرفة والمعلومات، فإن اختراع (الإنترنت) مارس في مجتمعاتنا الدور نفسه التي فعلته المطبعة في أوروبا وألغت فيها دياجير الظلام.
بقي أن أشير إلى أن رئيس جمهورية الإخوان في مصر محمد مرسي، عندما تولى السلطة، عفا عن أحد قاتلي المرحوم فرج فودة، فقد تم إعدام أحدهما، وحكم بالسجن على الثاني، على اعتبار أن القاتل كان ينفذ ما أمر الله بتنفيذه، وأن القاضي كان يمارس سلطته في دولة جاهلية كما كانوا يصفون أي دولة عصرية خلاف دولتهم.
إلى اللقاء