د. حسن بن فهد الهويمل
بعض المتسرعين المجازفين يدخلون [إسطبلات الخيول] الهائجة المائجة على أرجلهم؛ ليخرجوا منها محمولين على الأيدي بين الحياة والموت.
مِثْلُ أولئك من تجرهم شُبَا أقلامهم إلى [معترك الأقران] حول المعاني، والمفاهيم، والمصطلحات، والظواهر، والوقوعات؛ ليقولوا فيها بدون معرفة، ولا تأصيل للمعارف، ولا تحرير للمسائل.
عوالم السياسة، والفكر، والدِّين تفيض بالعارفين، والجهلاء، والعقلاء، والعاطفيين، والمجربين، والمجازفين، والمكبين على وجوههم.
والمتلقي في حيرة من أمره، لا يعرف المصيب من المخطئ، ولا العالم من الجاهل. واستفتاء القلب يتطلب قلباً مؤمناً، تقياً، عارفاً، مخموماً، إذ ليس كل قلب مُهَيَّأً للإفتاء.
وعي الأمة حين تجتاله هذه الأصناف تتفرق به السبل، ويدخل في متاهات مضلة. والزمن المعاش بكل آلامه ناتج هذا التخبيص، والقول في سائر الأشياء بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.
كانت السلطة من قبل لـ[القائل] يَفْرِض نفسه، والكل يُفَوِّض أمره إليه؛ فهو [حَذَام]، والقول ما قالته.
ثم دالت دولة [القائل] حتى أميت، وحَلَّت محله سلطة [النص] بمستوياته الأربعة:-
- قطعي الدلالة، والثبوت.
- واحتمالي الدلالة، والثبوت.
- وقطعي الثبوت، احتمالي الدلالة.
- وقطعي الدلالة، احتمالي الثبوت.
وببنيته اللغوية، والجمالية، والإيجازية، والمجازية.
والنص التشريعي:- [القرآن، والسنة] يدخل ضمن هذه المستويات الأربعة، إلا القرآن؛ فهو وحده [قطعي الثبوت].
ومثلما دالت دولة [القائل] دالت دولة [النص]، وحلَّت محلها سلطةُ [المتلقي]؛ فكانت [نظرية التلقي] و[المفهوم]، و[نظرية المعرفة]. ولكل عالم مجتهد نظريته في التلقي. على حد:- [فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى منْ سَامِع].
فـ[المعاني] مقاصد المُرْسلين، ومضامين الخطابات.
و[المفاهيم] استنتاجات المتلقي.
وهذا مصدر الاختلاف، والتعدد.
[المتنبي] الشاعر الذي أسهر الخلق، ونام؛ ليختصموا حول شوارد شعره، هو الآخر الذي جعل من نفسه [مُرْسلاً، ومتلقياً]؛ ومن ثم أعيته معانيه التي أبدعها.
حتى قال للمستوضحين:- اسألوا عن شعري الشيخ الأعور [ابن جني] فإنه أعلم به مني.
وحين وقف فوق [صهوة جواده] على قوم يَتَجَادَلون حول شعره حَيَّره اختلافهم فيما بينهم، واختلافه معهم.
ولمَّا حاول إبداء معانيه المقصودة نهروه - وهم لا يعرفونه - لأن لديهم مفاهيمهم الخاصة؛ فتولى عنهم، وفي نفسه أكثر من غصة.
في زماننا المتخم بكل الاحتمالات تتناسل المصطلحات، ولكل قوم مفاهيمهم، ومواقفهم.. تلعب بهم العواطف، وتضلهم الأهواء، وتنحرف بهم الشهوات، وتستدرجهم الشبهات:-
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}.
أن يَضِل الجاهل فأمر طبيعي، ولكن الخوف من ضلال العالم:- {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}.
من المتلقين من هو [مبرمج] ومن ثم تأتي أحكامه المسبَّقةِ الصنع ثابتة، لا تتغير مع التلقي:- {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}.
هذا الصنف من الصعوبة بمكان تحويل مساره، أو تعديل مفاهيمه.. ولو أسمعته لتولى، وهو معرض عما تقول.
المصطلحات المتداولة، يتلقاها البعض وكأن قومَه وحدهم المستهدفون بها. وتناوله لها يُكَرِّس الاتهامات المتبادلة.
خذ على سبيل المثال مصطلحات [التكفير]، و[الإرهاب]، و[الصحوة]. وهي مصطلحات متداولة على مختلف الصُّعد الإقليمية، والعالمية. لا يَدري أحدنا بالتحديد من سَكَّها، وروج لها. والتسليم بأننا طرف رئيس فيها تمكين للأعداء من السمعة، والرقاب.
نحن جزء من هذا العالم، ولسنا كله. ودخن المشاكل لا ينبعث من أرضنا، ولكنه يَعْصف بنا، ويخنق أنفاسنا.
والقول بأننا مسؤولون عن اجتثاث أي ظاهرة غير سوية تحميل لما لا يُحْتَمل، ولزومٌ لما لا يلزم.
مهمتنا تحديد مفاهيمنا، ومواقفنا؛ فنحن ضد المفاهيم الخاطئة كـ[الصحوة] - على سبيل المثال - بمفاهيمها الخاطئة عند البعض. مهمتنا تصحيح الأخطاء الناتجة عن سوء الفهم.
[الصحوة] مصطلح، قد يكون رديفاً لـ[التجديد] الذي أخبر به من لا ينطق عن الهوى، وهذا مصطلح إسلامي لا غبار عليه.
وحين نتقحم المشاهد بعواطف جياشة، غير مأمونة العواقب، نضيف إلى أعبائنا أعباء لا طاقة لنا باحتمالها.
قال البعض منا:- إننا مسؤولون عن [أمن اليمن]، فكتبتُ:- الشعب اليمني وحده المسؤول عن أمنه، ونحن نُساعد، ونُبارك سعيه.
نحن مسؤولون عن أمن حدودنا. وأيُّ تدخل خارجي في [اليمن] يستهدف أمننا، واستقرارنا، يستدعي تدخلنا المباشر - وإن غلا الثمن - لدحره، والقضاء عليه. وذلك حمَّلنا مسؤولية [عاصفة الحزم].
وسمعتُ من يقول بأننا مسؤولون عن القضاء على [الصحوة] دون تحديد لنوعها، ومقرها. وفي هذا إقحام لنا في مواجهة ظواهر لسنا مسؤولين عن وجودها بهذه المفاهيم الخاطئة.
لا نريد أن نحمِّل أنفسنا تصحيح مفاهيم العالم الخاطئة، بل علينا أن ندعو، ونوجه، ونُصْلِح:- {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
[الصحوة] مصطلح متداوَل على مختلف الصُّعد العربية، والعالمية.. واضطراب مفاهيمه، ونتائجه، ليست مسؤوليتنا، ومن ثم ليست مهمتنا وحدنا.
نحن مع العالم في مواجهة الإرهاب، والتطرف. ومع العالم في درء أي مفسدة. وليست علينا مسؤولية إصلاح العالم. فالله لم يحمِّل رسله مسؤولية الهداية، ولم يمنحهم الوكالة، ولا السيطرة على عوالمهم. {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}. {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. البلاغ وحده مهمة الرسل:- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}.
بعض الكتبة يُحَمِّل نفسه وقبيله المسؤوليات والمهمات كافة، وكأن قومه وحدهم الذين سَكُّوا تلك المصطلحات، وثَبَّتُوا مقاصدها الضالة.
ولأنَّنا لسنا بِدْعاً من الأمم فإن علينا ألّا نظن بأنفسنا ظن السوء، ولاسيما أننا مستهدفون من قالة السوء، وكل قول حَمَّال يطير به المرجفون، ويحرفونه من بعد مواضعه.
اللهم إننا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.