عبدالعزيز السماري
يعتقد غالبية اليهود الإسرائيليين (56 في المائة) أنهم «الشعب المختار»، وفق استطلاع للرأي، أجرته صحيفة هاآرتس. ويصبح هذا الرقم أعلى بكثير بين أتباع اليمين السياسي في إسرائيل؛ إذ بلغ 79 في المائة. كما تضمنت نتائج الاستطلاع الذي أُجري للاحتفال بالعام اليهودي الجديد عددًا من الحقائق التي تكشف عن المجتمع الإسرائيلي، واتجاه سياسة البلاد؛ فهناك اتجاه قد يكون مصدر قلق كبير لأولئك الذين يرغبون في رؤية حل سياسي في فلسطين على أساس القانون والعدالة الدوليَّيْن، وهو أن أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين يعتقدون أن حقهم المتصوَّر في «أرض إسرائيل» مستمد من عهد الله الإلهي في الكتاب المقدس.
العبارة تختزل كثيرًا من أوجه الصراع العربي - الإسرائيلي، كما تعني أن التفسير الديني لتبرير الاستيطان والاحتلال يعلو قيم الحداثة وتطبيقات القانون الدولي، وهو ما عجز عنه مثقفو العرب وعلماؤهم وسياسيوهم في طرحه في ساحات العلاقات الدولية، أو من خلال الدراسات المعرفية الموثقة. فالعنف الإسلامي - وهو مذموم - أصبح يختزل كل أوجه الإرهاب الدولي، بينما يعد تاريخ تأسيس دولة إسرائيل على أسس دينية إرهابًا دوليًّا بامتياز.
بعد مذابح الهولوكوست تساءل جورج برنارد شو عن الظلم الذي تعرَّض له اليهود في ألمانيا النازية. ألم يكن هذا ما فعله شعب الله المختار بالكنعانيين في عملية غزو الأرض الموعودة؟ ومن هذا المنطلق تسقط مختلف قيم الحداثة إذا لم تعتبر إبادة الكنعانيين الأوائل جريمة إنسانية، وهي الأصل الديني الذي يبيح لليهود الصهاينة قتل وتشريد الفلسطينيين، وهي الفكرة التي سهلت للغزاة البيض تشريع قتل الهنود الحمر.
الاستعمار الأوروبي للأراضي الجديدة أدى إلى مقتل الكثير من السكان الأصليين، وجاء ذلك من خلال تبني نظرية الشعب المختار، التي تتم استعارتها من العهد القديم من أجل تشريع قتل سكان الأرض. وحدث ذلك التماهي في وقت مبكر من القرن السابع عشر عندما تمسك البروتستانت بعقيدة الشعب المختار، وحينها روَّجوا لفكرة أن المسيحيين يجب أن يساعدوا اليهود في تنفيذ مشروع العودة. وفي أوائل القرن التاسع عشر، ومع ظهور حركة إنجيلية كبيرة في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، اهتم البروتستانت الإنجيليون بالشعب اليهودي ومصيره؛ إذ وجَّهوا طاقاتهم في بعض الأحيان إلى مبادرات لإعادة اليهود إلى فلسطين، وتم تنفيذ معظم هذه المبادرات الإنجيلية الصهيونية في العالم الناطق باللغة الإنجليزية..
الإجراءات الأوروبية والأمريكية تجاه سكان الأراضي الجديدة أدت إلى إبادة شبه جماعية. وما كان هذا ليحدث لولا منطق التبرير الديني للإبادة، وهو ما يخالف سير التاريخ، ومنها تاريخ الفتوحات الإسلامية أو الغزو الإسلامي إن صح التعبير، فالإبادة لم تكن مبررة في تشريعات الدين؛ ولهذا لم تحدث إبادة في تاريخهم في العصر الوسيط، بينما كان جوهر نصوص الحراك السياسي في العهد القديم يقول بمشروعية القتل والإبادة والتهجير بين المؤمنين بالكتاب المقدس..
ما يفترض أن يروج له المثقفون والسياسيون العرب هو أن القتل والتهجير في فلسطين تم تحت ذرائع دينية، وإذا تم توثيق ذلك أمام المحافل الدولية، ونشر الحقائق المعرفية والتاريخية عن هذا التاريخ الدموي، سيكون من السهل اعتبار قيام هذه الدولة أحد أخطر أنواع الإرهاب السياسي في التاريخ، ويكون السؤال الأهم في هذه القضية عن جذور وأسباب الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين.
كذلك يفترض على المفسرين المسلمين تفنيد مشروعية قتل الكنعانيين الأوائل حسب نظرية الوعد الإلهي؛ إذ لا يتوافق ذلك مع المبدأ الإسلامي الذي يحرّم قتل النفس بدون وجه حق. وإذا قبلنا بالقصة التوراتية حول مشروعية إبادة الفلسطينيين الأوائل سيكون من البديهي تمرير مشروع تهجيرهم وقتلهم من خلال المنطق الديني؛ ولهذا علينا فحص قيم الحداثة في المحافل الدولية، وهل تعمل في الاتجاهين؟ أم أن دموية العهد القديم وتشريعاته في القتل مستثناة من تطبيقاتها، وتُسلَّط كسيوف على رقاب العرب وغيرهم من شعوب العالم الثالث من أجل تبرير الاستعمار من بعد.