د.عبد الرحمن الحبيب
لو أنك في رحلة سريعة للبرية وصادفت ثعباناً مرَّ سريعاً ولا يشكل خطراً عليك، أمامك عدة خيارات ولكل منها أسباب: قد تقضي عليه نتيجة شعور غريزي بأنه عدو طبيعي أو نتيجة تفكير عقلي بأنه قد يشكل خطراً لاحقاً.. هناك احتمال أن تدعه كي لا تخاطر بنفسك (سلوك غريزي) أو لأنك لا تريد الإخلال بالتوازن الطبيعي (تفكير عقلاني).. وثمة احتمال أن تدعه لأن الأرض أرضه وأنت الدخيل.. هذا سلوك مبني على مبدأ أخلاقي..
عندما تدافع عن ضرورة عمل شيء لمواجهة انقراض الباندا، فهل السبب لغرض نفعي كي لا نفقد حيواناً يشكل لنا حوضاً جينياً يمكن الاستفادة منه مستقبلاً، أم لغرض جمالي لشيء بديع نستلطفه، أم لمبدأ أخلاقي بحق هذا الحيوان في البقاء كعضو من أعضاء البيئة الطبيعية باعتباره غاية وليس وسيلة لغرض ما؟
هناك العديد من القرارات الأخلاقية التي يتخذها البشر (الأفراد، المؤسسات، الدول) فيما يتعلق بالبيئة، وهي تعتمد على الإجابة عن تساؤلات متنوعة؛ على سبيل المثال: ما هي الالتزامات البيئية التي يحتاج إليها البشر للحفاظ عليها للأجيال القادمة؟ هل يحق للبشر الاستمرار بصنع سيارات تعمل بالبنزين وتزيد التلوث؟ هل يستمر البشر بإزالة الغابات للزراعة؟ هل لهم الحق بالتسبب في انقراض نوع حيواني؟ هذا ما تناقشه فلسفة الأخلاقيات البيئية.
يقصد بالأخلاقيات البيئية نظام فلسفي حديث يدرس علاقة البشر الأخلاقية مع البيئة ومكوناتها غير البشرية وما يتصل بها من قِيم. هذه العلاقة تثير العديد من الأسئلة الأخلاقية، والتساؤل الأساسي الذي تتفرع منه الأسئلة، هو: بما أنه من الخطأ الأخلاقي أن يلوث الإنسان البيئة الطبيعية أو يدمر أجزاء منها، فهل هذا الخطأ لأن البيئة المستدامة ضرورية لرفاه الإنسان (الحاضر والمستقبلي)؟ أم أن هذا السلوك خاطئ لأن البيئة الطبيعية ومحتوياتها لها قيم بحد ذاتها يجب احترامها وحمايتها؟
هذا الطرح الحديث في أخلاقيات البيئة يتحدى المفهوم التقليدي بحق البشر في استخدام عناصر البيئة بالطريقة التقليدية التي ترضي البشر وحدهم.. فمن ناحية يشكك بالتفوق الأخلاقي والشعوري المفترض للبشر على أعضاء الأنواع الأخرى؛ ومن ناحية يبحث إمكانية وجود حجج عقلانية لتعيين قيم جوهرية للبيئة الطبيعية ومحتوياتها غير البشرية.
هناك عدة توجهات للفلسفة الأخلاقية البيئية، ويمكن تمييز توجهين أساسيين يتوسط بينهما توجه ثالث. التوجه الأول (النفعي، الواقعي، العملي..)، يدافع عن النظام البيئي كوسيلة مفيدة للبشر، ويدافع عن بقاء الأنواع بسبب منافعها لنا، مثل حماية الثعابين لأنها تكافح الفئران، أو الخنافس لأنها تنظف الأوساخ، أو الأعشاب لفائدتها الطبية، أو مكافحة التلوث من أجل صحتنا.. الخ.
التوجه الثاني (البيئوي، الخضر، المثالي..)، يقدر أهمية طرح التوجه الأول مضيفاً إليه أن للنوع الحي (الحيواني وربما النباتي) أيضاً قيمة جوهرية كافية كغاية بحد ذاتها (وليس وسيلة) مما يولد واجباً أخلاقياً من البشر لحمايته أو على الأقل الامتناع عن إلحاق الضرر به بأي ثمن. وثمة توجه وسطي يحاول أن يقارب بين التوجهين موازناً قدر الإمكان بين المنافع البشرية واحترام الأخلاق البيئية.
من أصحاب التوجه الثاني الفيلسوف الأسترالي ريتشارد روتلي الذي يطرح حالة متخيلة: لو وقعت كارثة عالمية وقضت على جميع البشر باستثنائك أنت، وثمة وضع يتطلب القضاء على جميع الكائنات الحية الأخرى قبل رحيلك.. ما الذي ستعمله؟ يقول روتلي: من منظور المركزية البشرية المطلقة (أي التوجه الأول)، فإن الشخص الأخير لن يفعل أي شيء غير أخلاقي إذا دمر البيئة، باعتبار فعله المدمر لن يتسبب بأي ضرر للبشر، الذين اختفوا؛ لكن هناك حدساً أخلاقياً بأن التدمير ستكون خاطئاً، لأن تلك الأشياء غير البشرية في البيئة لها قيمة جوهرية، نوع من القيمة المستقلة عن فائدتها للبشر.
الاختلاف بين التوجهين وما يصل به من مذاهب أخلاقية يؤدي لاختلاف حاد في رسم السياسات. من أشهر الأمثلة، التيار الأول يشجع إصدار الحكومات لسياسات تعمل على تخفيف أثر الغازات المنبعثة مثل امتصاص الكربون من الجو وتخزينه، بينما التيار الثاني يعارض ذلك أخلاقياً لأنها لا تخفض الانبعاثات الغازية بل تزيدها لأنها تتكيف معها باعتبار عودة الأرض إلى حالتها الأصلية مستحيل، مما يؤدي لمزيد من الصعوبات..
أما التوجه الوسطي فيرى أن الخطر الأخلاقي حقيقي لهذه السياسة، ولكن استخدامه كحجة معها أو ضدها يشتت الجهود فهناك حجة قوية لكليهما، فتخفيف آثار الانبعاثات لا يعني السماح بزيادة الأعمال المؤدية لهذه الانبعاثات، إذا أخذنا على محمل الجد جميع الخيارات للتخفيف من تغير المناخ. الخطر المحتمل من الابتكارات التي قد تبطئ التغييرات السلوكية اللازمة لخفض الانبعاثات، لا ينبغي استخدامه كحجة ضد سياسات وتقنيات مفيدة، مثل احتمال زيادة السرعة مع قرار إجبارية ربط الحزام في السيارات، لا تعد حجة جيدة.
ليس السؤال ما إذا كانت أي من التكنولوجيات ستشجع أو لا تشجع تخفيضات الانبعاثات، السؤال الحقيقي للمتشددين بسياسة المناخ (البيئويين، الخضر..) هو كيفية تشجيع تخفيف الانبعاثات، ومواجهة أولئك الذين يراوغون ويلتفون على المخاطر الأخلاقية (النفعيين، الشعبويين) لتفادي اتخاذ قرارات سياسية أكثر صعوبة.
السؤال الأخلاقي للتعامل مع البيئة ومكوناتها.