عدت ووالدي من الرياض شمالاً إلى بلدتي المجمعة، وقبل أن نميل يمينًا إلى بلدتي العزيزة ومسقط رأسي، دار حوار بيني وبين والدي الغالي، أنظر إليه، أتأمل وجهه الحبيب وأنا يملأني معنى الآية الكريمة: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، وينظر إليَّ إكبارًا، يراني أستاذة جامعية وأراه أستاذي الأول، والدي وإخوته أعمامي الأعزاء، ما زالوا يعملون في الزراعة والتجارة والرعي، تتحرك الأسرة بين الشمال الشرقي للملكة وشمالها وغربها وحجازها ودولة الكويت، وأتحرك أنا وإخوتي بين المجمعة والرياض والقصيم والمدينة المنورة، وشتى بقاع المملكة والعالم، بين أستاذة جامعية وطبيبة ومعلمة ومهندسين للمعادن والكهرباء وضابط في الجيش السعودي، أبي يحدثني عن أعمامي وأنا أحدثه عن إخوتي فيبتسم راضيًا، ويصعد الحديث فيحكي عن والديه وأجداده، الذين أتوا من الحجاز، منهم من أقام ومنهم من واصل المسير إلى أقصى الشرق على ساحل الخليج العربي، رحلات وهجرات تملأ قلبينا حنينًا وحبًا لهذه الأرض الطيبة التي نسير عليها، أفكر هل من الممكن أن يُنجب جيل المزارعين والرعاة والتجار هذه المهن التي ذكرتها؟ وأعود بذاكرتي إلى ما درسته في مدارس المملكة وجامعاتها: أن الثقة التي وضعتها فينا السعودية الحبيبة لم تكن وليدة الإيمان بجيلنا، بقدر ما هي تليدة اليقين بجيل الآباء والأجداد الذين لم يكن معهم إلا الانتماء للدين وقدسية الأرض مهبط الوحي ومهد اللغة وخلود الإنسان المسلم العربي، ودائمًا أردد في خاطري ما كتبه دكتور طه حسين في كتابه: (ألوان)، ومنه: (الحياة الأدبية في جزيرة العرب)، بأنها الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية. هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصًا لله وحده ملغيًا لكل واسطة بين الله والناس. هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب»(2) حيث أشار إلى دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.
من هنا أتأكد أن جينات الحضارة العربية الإسلامية في صحراء جزيرة العرب ممتدة في الأصلاب والأرحام جيلاً بعد جيل مهما تغيرت المهن وتعددت الرحلات والهجرات، فالصفات الراقية موروثة ولعل أولها اليقين «وحقيقة أنه لا يفترض بالبدوي أن يعرف الشك، لا تعني أن من المتوقع أن يتوجه إلى العمل بتهور -بل على العكس فالرجل الحقيقي لا يقدم على عمل كبير من دون إمعان التفكير مع نفسه ومع رجال قبيلته-. ولكن ما إن يتخذ القرار وترسم خطة العمل، فإن التنفيذ يجب أن يكون حازمًا بلا رحمة إذا اقتضت الحاجة. وفي هذا يميز الإنسان نفسه عن «الجاهل»؛ وهي كلمة تفيد في الجزيرة العربية أيضًا معنى الفتى الغر الذي يوقع نفسه والآخرين في متاعب بسبب طيشه واندفاعه الأعمى»(3).
في مديتنا قبائل كثيرة، منها: مطير، وعتيبة، وحرب، وتميم..، فقد كانت هذه القبائل في السابق تجول في الصحراء بحثًا عن الأراضي التي تتمتع بوفرة المياه، ولكن بعد ذلك «ضمنت الحكومة لسكان المدن والقرى أمنًا تامًا للحياة والممتلكات، حُوِّل رعاة المعز والضأن مزارعين نشطين، فيبنون الأكواخ في كل صوب»(4)، إلى جانب تلك القبائل حواضر منطقة سدير عمومًا، فهم «أولئك الذين يقطنون مساكن ثابتة»(5) في الغالب.
كان المساء الهادئ يفرد شراع الأمان، وأضواء المنازل والشوارع والمحال التجارية والمؤسسات تتبادل ألوانها الزاهية، وفي مدخل مدينتي المجمعة جامعتها الفتية الشابة التي تحمل اسمها، قلت لأبي: لولاكم ما كانت هذه الجامعة ولا كانت هذه الأضواء المتلألئة في هذه المدينة، يقول أبي: جزى الله آل سعود كل خير فلولا إصرارهم على بناء دولة سعودية حديثة ما كان الأمر، فلولا إصرار الإمام محمد بن سعود، ولولا دعوة الشيخ المبارك محمد بن عبد الوهاب لاستعادة الإسلام النقي الصفي ما كان الأمر، ورغم المحن والخطوب وقسوة العثمانيين والأوربيين وقضائهم على هذه الدولة الوليدة فإن الإمام تركي أصرّ على بناء الدولة الثانية، ورغم تكرار الخطوب والمحن والقضاء عليها كان لداهية العرب في العصر الحديث كما يقول (كارل بروكلمان)، الملك المؤسس عبد العزيز رحمه الله الفضل العميم في بناء الدولة الثالثة على غرار الإمامين الأولين محمد وتركي، ليثبتوا أن الدين الإسلامي دين حضارة واستقرار وثقة للنفس وبالمؤمنين فما نازعوا على حكم ولا نازعهم مكانتهم أهل الحكم. فاستقرت البلاد واطمأن العباد وعمَّ الخير.
رأينا أضواء منزلنا العامر تقترب منا فاطمأنت قلوبنا، وأكملنا حوارنا على مائدة العشاء مع بقية العائلة شاكرين الله على نعمته العظيمة.