د.عبدالله مناع
لأن الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» يعادي صحافة بلاده.. وهي الأقوى تأثيرًا على مستوى صحافة العالم، ولأنه يعادي الصحفيين عمومًا.. وإلى حد اتهامهم بـ التجسس و(الخيانة).. فإنه يعتمد على إعلامه الشخصي!! و(تغريداته) القصيرة -التي يحررها شخصيًا أو يحررها له مكتبه- ونشرها على حساب موقعه في (تويتر)، فكان أن فاجأ العالم.. في آخر شهر من شهور سنته الأولى في البيت الأبيض الأمريكي -وفي الخامس من شهر ديسمبر من عام 2017م على وجه الدقة- بتلك «التغريدة» الكارثية.. التي أعلن فيها عن عزمه أو (قراره) بنقل سفارة بلاده في إسرائيل من «تل أبيب» إلى «القدس الشرقية» - عاصمة الدولة الفلسطينية المحتلة- مع اعترافه بـ»القدس الشرقية» عاصمة لدولة إسرائيل!! فكان أن ثار عليه العالم كله.. من شرقه إلى غربه.. إلى اتحاده الأوروبي ودوله الصديقة للولايات المتحدة بحكم الروابط الإستراتيجية والدفاعية والاقتصادية التي تربط بينهما في حلف شمال الأطلسي -أو حلف الناتو-، ليتلقى الرئيس ترامب بعد ذلك الصدمة مدوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما رفضت مائة وتسع وثلاثون دولة: الاعتراف بـ(القدس الشرقية) عاصمة لدولة إسرائيل!! ليبقى الحال بعدها على ما كان عليه: «القدس» عاصمة لفلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويتعثر مشروع الرئيس ترامب في الاعتراف بها عاصمة لدولة إسرائيل.. إلى حد لم يعد أحد يدري معه إن كان مشروع نقل السفارة الأمريكية.. قد بدأ أو تبخر بعد أن عززت الدول الإسلامية في «إسطنبول»، والقمة العربية التاسعة والعشرون في «الظهران» التي اسماها الملك سلمان بن عبدالعزيز «قمة القدس».. من الموقف الأممي الرافض لإعلان -أو تغريدة ترامب- بأن «القدس» عاصمة لدولة إسرائيل...!!
لقد قيل في تبرير «تغريدة» الرئيس ترامب عن «القدس».. بأن الرئيس ترامب فعل ذلك مصداقًا لـ»وعوده» التي أطلقها أثناء حملته الانتخابية التي أو صلته إلى البيت الأبيض - لدى الناخبين الأمريكيين واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة.. حتى لا يُتهم بـ«خديعة» الناخبين من الجانبين...!!
* * *
لكن الرئيس ترامب.. عاد بعد ذلك في الشهر الثالث - مارس الجاري - من سنته الثالثة في البيت الأبيض إلى «التغريد» مجددًا.. في «تغريدة» له.. يوم الخميس -ما قبل الماضي- لا تقل خطورة وتهورًا عن سابقتها.. عندما قال -ودون مبرر حتى بمبرر «الوعود الانتخابية» الذي استخدمه في تغريدة «القدس»-: (بعد اثنين وخمسين عامًا.. حان الوقت لتعترف الولايات المتحدة اعترافًا كاملاً بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان)!!.. وهو ما فعله يوم الاثنين الماضي عندما قدم (اعترافه) لضيفه في البيت الأبيض في تلك الاحتفالية الهزلية).. ليثور العالم مجددًا على «تغريدته» رافضًا سيادة إسرائيل على الجولان المحتل.. بداية من مجلس التعاون الخليجي.. إلى منظمة التعاون الإسلامي.. إلى الجامعة العربية.. إلى «الاتحاد الأوروبي».. لسبب بسيط لم يكن يعلمه الرئيس ترامب لمحدودية معرفته السياسية، وبعده عن عالمها.. قبل وصوله إلى البيت الأبيض، فالذي لم يكن يعلمه الرئيس ترامب.. هو أن «إسرائيل» التي استولت على مرتفعات الجولان السورية عام 1967م.. حاولت إخضاع سكانه في الرابع عشر من ديسمبر من عام 1981م.. لما يُعرف إسرائيليًا بـ (قانون الكنيست)، وهو قانون ينزع الهوية العربية عن الأراضي التي تحتلها إسرائيل، ويلبسها هوية.. يهودية إسرائيلية بديلة.. إلا أن المجتمع الدولي -عبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة- لم يعترف بـ (قانون الكنيست الإسرائيلي) هذا على مواطني الجولان السوريين.. وأصدر قراره رقم 497، الرافض لـ (تهويد) «الجولان» بعد الاستيلاء عليه!! لكن الرئيس ترامب -الذي جاء إلى السياسة وعالمها عبر بوابة «المقاولات» وتجارة «العقار»- لم يكن يعلم كثيرًا أو قليلاً عن قصة (الجولان) واحتلاله في 1967م، ومحاولة تهويده المرفوضة عام 1981م، يضاف إلى ذلك اتفاقيات جنيف ومعاهداتها التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية، التي تحرم شرعنة احتلال أراضي الغير بالقوة ونزع هوية الأراضي المحتلة واستبدالها بهوية (المحتل).. حفاظًا على الأمن والسلام الدوليين من أخطر ما يهددهما.. والمتمثل في نزع الهوية الوطنية واستبدالها، وهو ما لم يكن يعلمه الرئيس ترامب.. أيضًا، إلا أنه يعلم قبل وبعد قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا.. (الحالة) التي وصلت إليها سوريا إقليميًا: بهذه الحروب التي تجرى فوق أرضها منذ أكثر من ثماني سنوات، وهذا التعلق بالسلطة الذي ما زال يتشبث به «بشارلأسد»، وهي تشكل ظروفًا مواتية لاستغلالها من قبل الرئيس ترامب لصالح رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يلاحقه القضاء الإسرائيلي بتهم «التحايل» والرشوة، ودعمه لخوض الانتخابات الإسرائيلية المقبلة في التاسع من أبريل القادم والفوز بدورة خامسة في رئاسة وزارتها.. إلى جانب ما سيجنيه الرئيس ترامب في المقابل على مستوى طموحاته في الفور بدورة رئاسية ثانية في الانتخابات الأمريكية القادمة في نوفمبر من عام 2020م.. وخاصة أنه حقق نجاحات اقتصادية ستحسب له رغم خلافاته مع الديموقراطيين والكونجرس والصحافة الأمريكية...!!
* * *
فالاستنكار والرفض العالميان اللذان استقبلت بهما «تغريدة» الرئيس ترامب عن اعترافه بـ(سيادة) إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة.. لم يكن حبًا في «بشار» واستمراره أو دفاعًا عن تحالفه مع «إيران» وملاليها.. ولكنه كان دفاعًا عن النظام الأممي الذي قام مع قيام (منظمة الأمم المتحدة) -في أغسطس من عام 1945م- بجمعيتها العامة ومجلس أمنها ومحكمة عدلها الدولية.. في أعقاب الانتصار على نازية هتلر العنصرية وفاشية الدوتشي موسوليني الإيطالية، وما أفرزته في خمسينيات -القرن الماضي- في «جنيف» من اتفاقيات ومعاهدات لحفظ حقوق الأوطان وحرية شعوبها..
ولذلك.. فإن العالم ليس مستعدًا لأن يتنازل عن مكتسبات أمنه وسلامه ليرحب بـ»تغريدة» الرئيس ترامب التي كتبت خارج الشرعية الدولية.. ولم يكن لها غير هدف قريب واحد هو: إنجاح بنيامين نتنياهو في انتخاباته البرلمانية المقبلة، واستمرار رئاسته للوزراء للمرة الخامسة، وهدف بعيد آخر.. هو استمالة (اللوبي اليهودي) في الولايات المتحدة.. لضمان نجاح الرئيس ترامب في انتخابات دورة رئاسته الثانية عندما يحين وقتها: بـ(المال) اليهودي والإعلام اليهودي.
فـ(الترحيب) بتغريدة الرئيس ترامب.. إنما يعني القبول بـ(شرعنة احتلال أراضي الغير)، وهو ما سيفتح بابًا رئيسة لانهيار النظام الأممي القائم حتى الآن، وأبوابًا أخرى جديدة للإرهاب والفوضى.. لم يعد عالمنا اليوم بحاجة إلى المزيد منهما.