محمد عبد الرزاق القشعمي
تربطني بالدكتور محمد بن عبدالله المفرح صداقة. إذ عرفته منذ كان مديراً للشؤون الصحية بالقصيم عام 1393هـ، إذ كنت أعمل وقتها في مكتب رعاية الشباب ببريدة.. وبعد عودته الأخيرة من ألمانيا وتسلمه العمل في مستشفى الشميسي بالرياض توثقت العلاقة بشكل أقوى، فهو في عمله طبيب ومريضه صديق. تبادلنا الزيارات في منازلنا في المناسبات، وكنت بحكم حاجتي كمريض أو زائر لمريض أشاهده في مكتبه مديراً للمستشفى صباحاً، وبعد نهاية فترة العمل بعد الظهر ينتقل إلى الدور الرابع لعيادته الباطنية لإجراء عملية (المناظير) للجهاز الهضمي. وكنت بحكم قربي منه أجده يحضر مبكراً قبل حضور الموظفين ويحضر معه غداءه (سندويتشات) ولا يخرج من المستشفى إلا مع الغروب. وكان زميله الدكتور محمد المعجل وقتها مدير الشؤون الصحية صباحاً، وفي المساء يزاول عمله بالمستشفى بالطب الباطني. فكان المعجل رئيساً للمفرح صباحاً. وفي المساء يصبح المفرح رئيساً للمعجل بحكم مسؤوليته بالمستشفى.
تولى الدكتور غازي القصيبي مسؤولية وزارة الصحة عام 1402هـ فصحب معه مجموعة من الأكاديميين ليشاركوه مسؤولية علاج ما يمكن علاجه من أوضاع متردية. فتجرأت وكتبت للقصيبي عن ما رأيته ولمسته من الدكتور محمد المفرح. وأن جمعه للعمل الإداري إلى جانب العمل الطبي وبقاءه بالمستشفى طوال اليوم مرهق له وقد لا تمكنه صحته من الاستمرار على هذه الحال بسبب ضغط العمل. بعد أيام وصلتني رسالة شكر من القصيبي. وجمعتني بالمفرح إحدى المناسبات فسألني: (وش أنت كاتب للقصيبي؟ فقلت: ما كتبت له شيئاً.. فضحك وقال كلاماً نسيته).
بعد سنوات انتقلت للعمل في مكتبة الملك فهد الوطنية وتوليت تسجيل برنامج التاريخ الشفهي للمملكة، فاتصلت بالدكتور المفرح وزرته ورجوته زيارة المكتبة للتسجيل معه فاعتذر، وبعد إلحاحي رفض بدعوى أنه لا يحسن التحدث شفهياً فقلت له أنه ليس للعرض أو الإذاعة بل لحفظه للتاريخ والذي يهمنا هو جمعك بين العمل والدراسة ثم البعثة إلى ألمانيا ثم العمل الصحي في مواقع مختلفة.. فهذا جزء من التاريخ.. ومع ذلك أصر على الاعتذار..
ويوم الخميس 8-7-1440هـ 14-3-2019م صدر كتابه أو سيرته، وكنت بصحبته وهو يرى عمله لأول مرة مطبوعاً بدار جداول بمعرض الكتاب. فقلت له لم أكن أريد منك إلا جزءًا من هذا العمل.. فكرر اعتذاره السابق وطلب مني قراءة الكتاب وإبداء رأيي فيه: وفي الحقيقة أنني حاولت تصفحه.. ولكني لم أستطع إذ بدأت بمقدمة الدكتور محمد البراهيم الحمد (مروءة وريادة) فلم أستطع ترك الكتاب حتى أكملته 238 صفحة.
وقد خصص الفصل الأول لمسقط رأسه الزلفي (البيئة، والبداية) ص 29-88 مستعرضاً وضعها الاجتماعي قبل سبعين عاماً، بعدها ينتقل بالفصل الثاني إلى الرياض ص 89-101، ليدرس المتوسطة والثانوية بالمعهد العلمي والمتوسطة والثانوية الوحيدة بالرياض، ويرى الكهرباء، وسوق المقيبرة وسوق النساء ويتعرف على الفول وخبز التميس والفواكه التي لم يرها من قبل، والذي يبيع الآيسكريم (اللي ما يشتري منوه ينكسر سنوه) وبائع الشربت (التوت) (اشرب التوت قبل تموت)، وعن بيع الثلج في عصر رمضان. هذه مني وليست بالكتاب.
وعن الفرقة الموسيقية التي تعزف موسيقى القرب بين شوارع الثميري والصفاة ودخنة حتى دروازة القرى - قرب المدرسة الأهلية. أكمل دراسته المتوسطة وكان ترتيبه الأول مكررًا على منطقة الرياض والثاني مكررًا على مستوى المملكة. ليتقدم للعمل بوزارة الصحة في 1-3-1378هـ ومواصلة الدراسة الثانوية ليلاً. وكان يطمح أن يكون طبيباً، فقد شجعه أستاذه المصري سيد إسماعيل سيد همام الأزهري المتمكن الذي درسه في الابتدائية بالزلفي الدين واللغة العربية، وكذا المدرس خميس سويدان الذي أصبح مذيعاً بعد ذلك والذي كلفه بكتابة موضوع الإنشاء عن الرعاية الصحية وكيف يجب أن تكون بتاريخ 12-3-1374هـ. توثقت علاقته بزملائه بوزارة الصحة وبوكيلها ثم وزيرها الدكتور حسن نصيف الذي سهل له أمور بعثته لدراسة الطب في ألمانيا، والذي يعرف مدى جده واجتهاده في عمله مع مواصلة دراسته ليلاً، وسهره لإكمال مراجعة وتدقيق المعاملات الحسابية التي يأخذها معه للبيت لإكمال مراجعتها مع مذاكرته للمقررات الدراسية.. ووالدته مريم الأحمد السكران تطلب منه النوم وتقول له: (يا وليدي أذن الفجر)!! ولسان حاله يقول (من طلب العلا سهر الليالي).
سافر إلى ألمانيا ولا بد من المرور على الملحق الثقافي محسن باروم بجنيف - إذ هو الملحق الوحيد في أوروبا - ووجد من سبقه زميليه فالح الفالح وعثمان الربيعة، ويلتحق بمعهد غوته لتعلم اللغة الألمانية وقد حَمّلته والدته - رحمها الله - ما يحتاجه وما لا يحتاجه المسافر مما أثقل كاهله وهو ينقل حقيبته الكبيرة في القطارات.
يذكر الكثير من الطرائف التي تحصل من بعض زملائه عن حسن نية، مثل هذا خفيف الدم ثقيل الوزن الذي عندما يتوضأ ويرفع رجله للحوض ليغسلها ينكسر فتطفح الغرفة بالماء ليطردهم صاحب البيت ويطلب منهم الرحيل للبحث عن منزل آخر. وعندما يمرون من تحت جسر يمر من فوقه القطار الكهربائي فتلامس الأسلاك ليطلع منها الشرر مع صوت القطار الذي يشبه الرعد فيردد مع زملائه (سبحان من سبح الرعد بحمده) وغيرها الكثير.
وعن محاولتهم التأقلم وتفهمهم للعادات التي لم يألفوها رغم اقتناعهم من صحتها مثل تقدير الكمية اللازمة للأكل، فكل يأكل ما يطلبه كاملاً أو يتوقف عن ملئ الصحن المعتاد.. فيقول إنه بدأ يطبق هذه العادة الحميدة حتى يومنا هذا.
ويقول إن أستاذ الرياضيات الدكتور فاتسك دعاهم للعشاء مع والدته ووافق عدد ثمانية أشخاص وهيئت المائدة لهذا العدد ولكن أحدهم دعا زميله الذي لم يسجل اسمه فبقي بلا عشاء لأنه لم يُعدّ إلا للثمانية.
ما زال يفكر بوضع عائلته بالرياض رغم أنهم يحصلون على نصف مرتبه الوظيفي من الوزارة، ومكافأته الدراسية لا تكفي فينخرط بالعمل ليلتين في الأسبوع ليسهر على رعاية المرضى في مصحات المسنين، أو مساعدتهم في الأكل والشرب أو قضاء الحاجة وتنظيفهم، أو مراقبة المحلول الوريدي، أو أعطاء غذاء عن طريق الأنبوب. كل هذا من أجل تحسين وضعه المادي.. ليتمكن بعد ذلك من شراء سيارة (حج وقضيان حاجة).
وقصته مع المرور رغم أن المحكمة حكمت عليه لخطأ قرره رجال المرور، فيطلب الاستئناف على أن يتحمل المصاريف إن خسر القضية فيصر مرة ثالثة ليتفهم القاضي ويحكم لصالحه.
وعن المرضى الخليجيين ومرافقيهم، ونزول أحدهم بالبيجامة ببهو الفندق، وهذا مخالف للأعراف والسلوك، فيقول ما قاله الإمام محمد عبده في باريس (وجدت إسلاماً بلا مسلمين وغادرت مسلمين بلا إسلام). وعن الدمغة التي يعرف بها أهل نجد وهي المكوى في (العترا) وكيف استدل عليهم من زاروهم ولم يهتدوا على سكنهم إلا مصادفة بهذه العلامة الفارقة ومنهم فوزان الحميِّن - رحمه الله.
وعن تأسيسهم لصندوق الطلبة السعوديين في جميع أنحاء ألمانيا، وتولى فالح الفالح إدارته وتولى المفرح أمانة الصندوق. وعن دور الشيخ حسن آل الشيخ وزير المعارف في حل موضوع الطلبة المتعثرين وتوزيعهم على جامعات في دول أخرى. وعن السماح للخريجين بدورة لتعلم اللغة الإنجليزية في لندن بعد ذلك.
ليعود بعد ذلك ويزاول عمله في وزارة الصحة رغم إلحاح زملائه وبالذات فالح الفالح بالانتقال لكلية الطب بجامعة الملك سعود.
يزاول عمله في مستشفى الأمير طلال (الملك عبدالعزيز فيما بعد) فيبدأ بالمناوبة مع زميله جاسر الحربش طول الليل وهم يستقبلون المزيد من المرضى حتى أرهقوا بعد منتصف الليل حتى ليكاد أحدهم أن يخر مغشياً عليه فيشفق عليهم المرضى ليدخلوا لأخذ جرعة من الماء فينظر الحربش إلى وجهه في المراية وإذا هو شاحب لاهب فما كان منه إلا أن قال: «تفو على ها الوجه وعلى إلى خلاك تدرس الطب!!» عندها ضحكنا ونسينا الذي صار، وعدنا لاستقبال الجيوش الأخرى من المرضى.
كلف رغم أنفه باستلام الشؤون الصحية بالقصيم عام 1393هـ على وعد باستكمال التخصص بعد سنتين. ليفاجئ بإضراب أطباء مستشفى الرس والذي تزعمهم اختصاصي الجراحة الوحيد وزوجته اختصاصية النساء والولادة اللذين طلبا الذهاب إلى العمرة. ولم تتم الموافقة عليها لأسباب إدارية ولكنهما أصرا وتركا العمل وحرضا الآخرين على الإضراب. وكيف عالج الموضوع بإنهاء عقود المتزعمين والحسم على البقية عند عودتهم للعمل وإلا يلحقوا بمن أنهيت عقودهم. وانتهى الأمر وعادت الحياة لمجاريها.
يعود لألمانيا للتخصص عام 1394هـ وقد تزوج ورزق بابنه البكر طارق في بريدة وعمره 10 أشهر.
ويحدثنا عن صرامة الأساتذة الألمان، والذي سأل أحد طلبته عن علاجه لأحد المرضى.. وسأله عن الدواء الذي سيعطيه للمريض، وكميته، فأجاب بالاسم الصحيح للدواء. ثم قال إنه سيعطي المريض 50 مجم، فسكت الأستاذ. وعند خروج الطالب رجع مسرعاً قبل إقفال الباب وقال: آسف يا أستاذ إنها 5 مجم وليست 50 مجم، فقال له الأستاذ بأعصاب باردة: إن المريض قد مات الآن، وأنت قد رسبت، وعليك المذاكرة، والرجوع لإعادة الاختبار بعد 6 أشهر.
يقول عن سكان ألمانيا إنهم 82 مليونًا 24 مليونًا كاثوليك و22 مليونًا بروتستانت و4 ملايين مسلم و230 ألف بوذي، و100 ألف يهودي ولكنهم متحكمون في المال والاقتصاد والسياسة والعلم والإعلام. و90 ألف هندوسي، ويعد النمو السكاني صفر بالمئة.
ويقول إن كبير الأطباء ينظف سيارته بنفسه، ويعتني بنظافة ملابسه، وبخاصة الحذاء فهي إحدى علامات نظافة صاحبها.
يعود بعدها للعمل فيتولى إدارة مستشفى الشميسي وقد تغير الوزير من جميل الحجيلان الذي أصبح سفيراً في ألمانيا إلى فيصل الحجيلان.
وعن تطوعه مع مجموعة الأطباء أبناء الزلفي للعمل أيام الخميس طبيباً زائراً من 16-2-1427هـ وانتقاد الصحفي صالح الشيحي بأن ذلك تكريس للمناطقية فيرد عليه الأمير سلمان وقتها بمقال له بعنوان: (الإنسان إذا لم يكن وفياً لمسقط رأسه لا يكون وفياً لوطنه).
وتقاعد بعد أن أعير لمدة سنة لإدارة مستشفى التأمينات الاجتماعية ويفتح عيادة يزاول بها مهنته أطال الله عمره وأبقاه.
وفي الحقيقة أنني قد اختزلت الكثير مما كنت أريد التوقف عنده ولكن الخوف من أن يمل القارئ اكتفيت (من القلادة بما أحاط بالعنق)، وهناك الكثير مما لم أشر إليه ولكن القارئ سيستمتع مثلي لو اطلع على الكتاب..
هناك ملاحظة صغيرة ولأهميتها أحببت أن أسأل عن متى وكيف تزوج؟ خصوصاً وأنني أعرف والد زوجته الشاعر محمد بن سعد المشعان - رحمه الله -.. وكيف يجيز لنفسه ذكر اسم أمه مريم السكران وبناته ليلى ومنى ولا يذكر اسم زوجته أم طارق التي كرر ذكرها بهذه الصفة ثلاث مرات أو أكثر..
الملاحظة الثانية: أنه ترحَّم على وزير الصحة عند ابتعاثه للتخصص جميل الحجيلان مرتين بينما هو ما زال بيننا حياً يرزق ونحن بانتظار سيرته التي سمعنا عنها منذ مدة. بينما المتُوفى هو الوزير الآخر فيصل الحجيلان - رحمه الله.