د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تطلق البرجوازية على فئة من الطبقة الوسطى، كانت في زمن الإقطاع تتولى الصلة بين الطبقة الأرستقراطية وسائر أفراد الطبقة الوسطى، ولأنها تحتفظ لها بنصيب الأسد من الامتيازات المادية والاجتماعية، وتلقي بالفتات على سائر أفراد المجتمع فقد نبزوهم بـ»البرجوازية» أو»البرجوازيين»، وفيما بعد أصبحت تطلق على أصحاب النفوذ من الطبقة الوسطى أيضاً والمديرين التنفيذيين المتحكمين في المفاصل الكبرى خاصة الذين يقفون ضد مصالح الفئات الأخرى من الطبقة الوسطى والعاملة.
ونظراً لهذا الموقع الاجتماعي المتميز، والقدرة المادية الكبيرة، فقد أصبحت –بالرغم من قلة عددها- طبقة مستقلة، ذات حضور مميز، جعلها تسعى إلى تمييز نفسها أولاً، ثم تدون هذا التميز بوصفه سمات خاصة يجب حذقها شرطاً للدخول إليها، وتدل على من لا ينتمي إليها من أسلوب حياة، وطريقة معاش، وتواصل، وتحصيل منافع.
ولا أقصد هنا بالأدبيات ما كنت ذكرته من قبل من ربط نشأة الرواية الواقعية بالطبقة البرجوازية كما عبر جورج لوكاش، وإنما أقصد بالأدبيات الكتب التي تسعى لأن تنظر لأخلاق هذه الطبقة، وقيمها، وطرائق تعاملها فيما بينها أو بين الآخرين، وممارسات حياتها اليومية التي تدل عليها وتدخل فيما سماه ميشيل دي سيرتيو ب»مما رسة الحياة اليومية» «practice of Everyday life».
وذلك من مثل ما نجده في الحكاية المروية عن امرئ القيس بن حجر –مع اختلاف الطبقة الاجتماعية- أنه خطب امرأة من أبيها في قصة طويلة، وأرادت أن تختبره لعدم معرفتها به سلفاً، فقالت حين جاء: انحروا له جزوراً وأطعموه من كرشها وذنبها، فأبى أن يأكل، وقال: أين الكبد والسنام، والملحاء؟ ثم قالت: افرشوا له عند الفرث والدم، فأبى أن ينام، وقال: افرشوا لي فوق التلعة الحمراء، واضربوا عليها خباء.
فعلمت عندها أنه ابن ملك لذوقه في المأكل، والمشرب، والمجلس، والمبيت، ذلك أنه عرف أن ما يقدم له، ويطلب منه ليس مما يقدم أو يطلب من أمثاله، ثم أدرك أسلوب حياتهم، والذوق الذي يناسب مكانتهم، واعتادوا أن يفعلوه في حياتهم اليومية من الطعام والشراب والمبيت.
وهذا الأمر في هذه الحكاية ينطبق أيضاً على ما يجعله البرجوازيون مميزاً لهم في حياتهم اليومية عن سواهم من الطبقات الاجتماعية سواء كانت هذه الطبقة أعلى منهم (الأرستقراطية) أم أدنى منهم في نظرهم (الطبقة الوسطى، والعمال)، ولا نقصد بهذا مطلق الآداب العامة، وإنما نقصد آداباً خاصة في الحياة، تتطلب مقدرة أو معرفة خاصة مما سيأتي تفصيله.
ومع أنها صفات شخصية في المقام الأول، تلاحظ من خلال التعامل مع أحد أفراد هذه الطبقة، أو الاستماع إليه وهو يتحدث عن آخرين، ويحدد الشروط والمواصفات للشخصية الناجحة، فإن هناك مدونة حديثة قامت في جلها على هذه الصفات، والأفكار، والرؤية، تقدم النصائح والتجارب التي ينبغي أن يفعلها الإنسان لكي يحقق مراده، والصفات التي ينبغي أن يتصف بها، والممارسات التي ينبغي أن يقوم بها في المواقف المختلفة.
وحين تقدم هذا، فإنها تكشف في الوقت نفسه الرؤية التي تنطلق منها هذه التوجيهات، والصفات، وتمثلها. وهي ليست رؤية عملية تطبيقية (برقماتية) أو استجابة للمواقف بقدر ما هي رؤية اجتماعية فئوية، تعكس انتماء هذا الممارس لها إلى هذه الفئة، لأنها ستفهم ما يقوم به، وتقدره بوصفه بطاقة عضوية في نادي البرجوازيين، ولن يقع في دائرة التفسير الخاطئ، أو التصنيف المغلوط، أو الوصف بقلة المعرفة.
هذه المدونة كتبت بأيدي أناس يوصفون بأنهم مديرون تنفيذيون سابقون، أو قياديون ناجحون، أو مؤلفو كتب بيع منها مئات النسخ، وحولت حياة الفاشلين التعيسة إلى حياة سعيدة مملوءة نجاح، والعاجزين إلى قادرين، والخاملين إلى نابهين، والعيين إلى خطباء مفوهين، بمجرد أخذ النصائح التي فيها، إنها مدونة ما يسمى بكتب «تطوير الذات»، ذات العناوين المتميزة من مثل: «كيف تتمتع بالثقة والقوة»، و»فن الحوار والحديث»، «فن الاختلاط بالناس»، «كيف تصبح قائداً»، «قوانين لا تقبل الجدل في الحياة»، «خطة الثقة».
وكلها تدور حول قضايا محددة، بالرغم من اختلاف عنواناتها، يمكن أن توصف بلغة «أصحاب تطوير الذات» «مهارات التواصل»، فتسعى لأن تعطي الإنسان القارئ قدرة يستطيع بها أن يتواصل مع الآخرين، ويتحدث عن نفسه، وتسلك في معظمها سبيل القصص عن طريق سرد خبرات سابقة، وقعت للمؤلف أو لأحد معارفه وخلطائه، ويكون فيها قد عانى مشكلة من المشكلات التي يعنى بها الكتاب وحين عمل بنصيحة المؤلف أو غير سلوكه إلى النحو الذي يتحدث المؤلف استطاع أن يتغلب على المشكلة وأن يحقق مراده، وبهذا يكون الكتاب قد حقق مراده أيضاً.