المتأمل في واقع الرواية السعودية ينتابه شعور طاغٍ حول الإمكانات المتاحة التي تسمح بحريتها، وانطلاقها في فضاءات الإبداع دون أي شيء غير الإبداع، وإليه تتهادى العديد من الأسئلة التي من خلالها تحيل إلى كثير من الأسئلة اللاحقة، ولعل من أهمها هل يحق للكاتب أن يقدم محتوىً معرفيًا صادمًا قادرًا على كسر قيود السُّلطة دون وجل؟ وهل لديه الجرأة أن يكشف عن العيوب النسقيّة المسكوت عنها؟ ومن ناحية أخرى، ما الفن الروائي الخارق الذي من الممكن أن يتجاوز الواقع؟ أليس الرواية جزءًا من الواقع وانتماء إلى قيمه المجتمعية والإسلامية؟ أليس من الإنصاف أن تظل الرواية وسيلة إصلاح لا وسيلة خداع وتمرية؟.
من هنا تبدأ الجدلية بين الواقع والرواية، بين المرجعية المنضبطة التي تحاول تأطير الفن ضمن قوالب متماشية مع رؤاها وأهدافها، وبين فن فاعل لا يحده أمر غير الإبداع.
وفي نظري أن النص الروائي يجب الإيمان بهويّته وقيمته بعيدًا عن السلطة فالرواية رقيب الواقع تكشف عن المسكوت وعن عَواره كي تخلصه من الترسبات، تعيد صياغة الأسئلة وتخلق من الثوابت متغيرات، وبالتالي من الظلم أن تظل حبيسة الواقع يمرر من خلالها تصوره العلمي وغاياته المستبدة. غير أن هذا لا يمكن الإيمان به هكذا مطلقًا بل على الروائي أن يحقق التقنيات الفنيّة اللازمة التي تسمح له بنقد الواقع دون أن يكون مفصحًا عن العيب المجتمعي بفجاجة، ولا أن تكون كتاباته ممارسة للانتقام أو تفريغًا للخصومة، وفضاء للهمز واللَّمز. وفي المقابل، على المؤمن بحكومة الواقع أن يزيل وهم السلطة الخارقة التي تشوّه الأشياء وتغيّر جمالياتها وتصنع من الزمن دائرة مغلقة لا تبارح عالمها ولا تؤمن إلا بعوالمها الخاصة التي تصادر الآخر وقيم الفنون وجمالها.
ومن المهم، أن أستشهد بكتابين وروايتين كل منها يشكّل نموذجًا بين الفنية والعلمية وخلاف الفنية والعلمية، فأما الرواية الفنية فهي رواية «الحزام» لأحمد أبو دهمان، والرواية غير الفنية رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع، فالأولى مررت رسائل بطريقة جمالية دون أن تكون فجةً في التمرد على قوالب السلطة الواقعية، والثانية كانت رسائلها مفضوحة ومصادمة بشكل علني وبلغة مباشرة، إضافة إلى كونها ألبست الرواية لباس السيرة الذاتية.
وأما الكتاب العلمي المنطلق من العقل «الرواية السعودية - واقعها وتحولاتها» للدكتور حسن النعمي، والكتاب غير العلمي المنطلق من العاطفة «من عبث الرواية - نظرات من واقع الرواية السعودية» عبدالله العجيري، فالأول تناول الرواية من ناحية نقدية أدبية، فآمن بما لها وما عليها، واختار نماذج روائية نموذجية صنعت فارقًا رائدًا في الفن كروايات عبدالعزيز مشري، والآخر تناولها من ناحية دينية خالصة فكأنما يقرر درسًا دينيًا، وموعظةً خطابيةً، بينما اختار نماذج الدراسة من روايات لا تتجاوز حدود التفريغ الذهني والتطهير النفسي والانتقام من الواقع أو لنقل روايات يدور حولها الجدل سلفًا كروايات تركي الحمد.
وختامًا تظل قيمة الأشياء في كياناتها الخاصة لا في منازعها السلطوية، فالفن حقيقته الإبداع والمتعة القرائية، والواقع قيمته في استنطاق العقل والدرس العلمي الخالص دون امتداد قافز كالفراشات. ولعل الفائدة التي قد نتفق عليها أن جمال الجدل بين الواقع والرواية السعودية ليست على المستوى الظاهري القضائي بل على المستوى الضمني الذي يحث الكاتب كي يكون المنتج الروائي مختلفًا في اللغة والوصف والحكي والبنية المتجددة.
** **
- د. خالد الجميحي