د. عبدالحق عزوزي
منذ قرابة ست سنوات، يقوم الرئيس الصيني شي جينبينغ بإنشاء طرق حرير جديدة، حيث بدأت مغامرة أول طريق للحرير مع ماركو بولو قبل نحو 1000 عام؛ وبمرور السنين، أصبح هذا البرنامج الاستثماري الضخم في البنية التحتية بمثابة السياسة الكبرى للدولة. ويمثّل انضمام إيطاليا في الأيام الماضية، خطوة مهمة في تحقيق هذا المشروع الصيني الضخم.
وأضحت روما، وهي ثالث اقتصاد أوروبي، أولى أعضاء مجموعة السبع - التي تضم القوى الاقتصادية الغربية الرئيسية- التي تدعم مبادرة بكين. ولا جرم أنه مع القرار الإيطالي، يمد شي جينبينغ «طرقه» للحرير، وقد نجح الرئيس الصيني قبل ذلك في إقناع 72 دولة على النسخة الحديثة لهذا الممر الاقتصادي والتجاري. ويقوم العملاق الصيني بتغيير الخريطة الاقتصادية العالمية على جميع الأصعدة، من الحوكمة العالمية إلى القواعد التجارية مروراً باحترام البيئة وعمليات الاستثمار، من خلال توظيفه استثمارات كثيفة في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في سياق مشروعه «طرق الحرير الجديدة»...
ويتكون مشروع بكين الطموح من قسم بري، ويتمثّل في إنشاء وتمويل سكك حديدية بين الصين وأوروبا، وقسم بحري، يتمثّل في استثمارات في عشرات الموانئ عبر العالم لتيسير التجارة الصينية.
ولا يظنن ظان أن التحركات الصينية تمر دون تخوف من الأوساط الأوروبية والدولية التي بدأت تنظر إلى الوجود الاقتصادي الصيني على أنه واقع يجب التعايش معه. فقد أشار المفوض الأوروبي غونتر أوتينغر «بقلق إلى أن بنى تحتية إستراتيجية مهمة مثل شبكات الكهرباء أو خطوط القطارات فائقة السرعة أو المرافئ، لم تعد بأيد أوروبية، بل صينية». وأضاف «أوروبا بحاجة ماسة إلى إستراتيجية حيال الصين». وكان الرئيس الفرنسي قد دعا إلى «استفاقة وإلى الدفاع عن سيادة أوروبية» بوجه بكين التي وصفتها المفوضية الأوروبية بأنها «غريم على جميع الأصعدة». كما أن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس قال لصحيفة «فيلت أم زونتاغ» الألمانية الصادرة يوم الأحد «في عالم يضم عمالقة مثل الصين وروسيا أو شركاءنا مثل الولايات المتحدة، لن يكون بوسعنا الاستمرار إن لم نكن متحدين كاتحاد أوروبي».
المهم من هذا كله أن دولة الصين استطاعت فهم العولمة والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعوي» تسعى إلى تصدير نموذجها التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا اللتين يسعيان إلى تصدير النموذج الغربي زاعمة أنه لا يمكن تحقيق أي نجاح دون المرور وامتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي، بل وأيضاً نموذجها الاقتصادي والسياسي؛ فالصين، ما دام أن أراضيها ومصالحها السيادية لا تمس بسوء، كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل، وتمؤسس لقاعدة مفادها بأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق - عدو» وإنما في إطار «رابح- رابح» win-win
وقد سمعنا أن اليابان تحاول الإبقاء على اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ على قيد الحياة عن طريق الضغط من أجل التوصل إلى اتفاقية جديدة دون الولايات المتحدة الأمريكية. وللذكر فإن الرئيس الأمريكي قد سحب بلده من الاتفاقية التجارية بعد وقت قصير من تنصيبه. والأعضاء المتبقين في اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ هي اليابان وأستراليا وبروناي وكندا وتشيلي وماليزيا والمكسيك ونيوزيلاندا وبيرو وسنغافورة وفيتنام، وسيكون المتضرّر الأكبر على المدى المتوسط والبعيد هو الولايات المتحدة الأمريكية.
تسيير العالم حسب قواعد، وفي بعض الأحيان حسب أهواء القوى العالمية لم يعد ممكناً؛ والنظام الغربي في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لم يعد له نفس الجاذبية ونفس القدرة على التصدير الجاهز. فالصين والهند مثلاً يحتاجان وحدهما إلى الآلاف من الصفحات الجادة لفهم نظامهما الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. وتنجحان اليوم وباستمرار في التأثير على نظام عالمي بشكل مريح ودون صداع الرأس في تسيير شؤون العالم؛ أي أنها تؤثّر بأقل تكلفة، فلا تتدخل لا عسكرياً ولا مخابراتياً ولا مؤسساتياً كما تفعل أمريكا، ولكن تتدخل بقوتها الصناعية وبكفاءات أبنائها وبعوامل نموها الدائم، دون إشعار الآخر أياً كان بأنه موسوم بالأسفلية، بل إنه سيكون رابحاً في تعامله معها، وهذا هو سر نجاح من يجيد قراءة الساحة الدولية في عالمنا المعاصر.