أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الألحان في تجدد؛ بل رأيت بعض الألحان تقتضي أوزاناً جديدة لم ترد في أوزان الشعر العربي؛ والبرهان على ذلك أن العرب منذ اختلطوا بمراكز الثقافة في بلاد العالم بُعيد جاهليتهم: استجدت لهم ألحان غنائية لا علاقة لها بالشعر العربي إلا بتصرف من الملحن أو المغني؛ فترتب على ذلك ظهور مدرستين في الغناء: هما مدرسة ذوي اللحن العربي المحافظ كـ(إبراهيم الموصلي)، وابنه (إسحاق)، ومدرسة ذوي الألحان الأعجمية (الغناء المتقن).. قال الجاحظ عن هاتين المدرستين: العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ؛ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن؛ فتضع موزوناً على غير موزون»؛ وقد جلى التأريخ لهذه الظاهرة الدكتور (عبدالحميد حمام) فقال: «ولقد استطاع الشعراء والمغنون العرب أن ينفذوا إلى أوزان أخرى لم تعهدها حضارة العرب الجاهلية؛ ولعل هذا ما دعا الجاحظ لمقولته المشهورة التي صدّر بها هذا البحث؛ ومنها نستنتج أن العرب وحتى [الصواب: إلى بدل (وحتى)] عصر الجاحظ: كانت ما تزال حريصة على تلحين الأشعار الموزونة على ضروب تناسبها، بينما تخالف العجم هذا المبدأ؛ فتمد المقصور، وتقصر الممدود من اللفظ حتى يتناسق مع الوزن الموسيقي.. وتجدر الإشارة إلى أن المغنيّيين في صدر الإسلام والعصر الأموي؛ وجلهم من الأجانب: قلدوا أسلوب الأعاجم في الغناء؛ ففسروا الشعر العربي الذي كان متسقاً مع وزن اللحن العربي؛ للتوافق مع ألحان أعجمية لا توافقه، وطوعوه لوزن اللحن؛ ومما يدعم ادعائي هذا كون معظم مغنّيي تلك الحقبة من الموالي والأعاجم، وعنهم نشأ الأسلوب الذي أطلق عليه اسم (الغناء المتقن)؛ ومن أهم خواصه تطبيق إيقاع مستقل عن عروض الشعر على لحن الأغنية.. انظر (فارمر، 156: 63).. يعني كتاب (تاريخ الموسيقى العربية) تأليف (هنري جورج فارمر) ترجمة (حسين نصار)/ نشر مكتبة مصر عام 1956ميلاديا / 1377هجرياً.. وكان أن تسبب هذا الأسلوب الجديد في جزء من الخلاف الذي نشأ بين مدرستي العصر العباسي من الموسيقيّيين؛ فقد انتهج (إبراهيم الموصلي)، وابنه (إسحاق) نهج المدرسة العربية القديمة بمحاولتهما الحفاظ على تناسق وزن الشعر مع الأوزان الموسيقية؛ بينما خالفهما (إبراهيم بن المهدي) في ذلك.. وإن ما أخذه (إسحاق الموصلي) على (ابن المهدي) من إطالة ضمة (ذهبت) وإحالتها إلى واو هكذا (ذهبتو).. في غنائه: (ذهبت من الدنيا وقد ذهبت مي)؛ لتساوق اللحن، أو الوزن الموسيقي الأخير؛ لإثبات صحة ما أشار إليه الجاحظ، وما استنتجناه منه [أحال إلى الأغاني للأصفهاني، وبحث للكاتب نفسه (عبدالحميد حمام) بمجلة القاهرة بعنوان (علاقة الشعر بالغناء عدد 83).
قال أبو عبدالرحمن: هذا دليل على أن زحاف القبض في (فعولن) لا وجود له إلا في القراءة، وأن الغناء يحولها إلى (فعولن)؛ ويبدو أن الزمن لم يكن في صالح مدرسة (الموصلي)؛ إذ إن الأسلوب الجديد راج في زمن (الفارابي) حوالي 874-950 ميلاديا / 260-339 هجرياً، وانحسرت طريقة (الموصلي).. وها هو (الفارابي) يؤكد ذلك بقوله: «وقد يتفق أن تكون مقادير القول الموزون (الشعر) مساوية لأجزاء اللحن، ومنطبقة عليه؛ وقد يتفق أن تختلف؛ غير أنه ليس ينبغي أن يراعى في صنعة الألحان مطابقة أجزاء القول الموزون لأجزاء اللحن، ولا مطابقة وزن القول لوزن اللحن؛ بل إنما ينبغي أن يجزأ القول بحسب أجزاء اللحن، ولا يلتفت إلى وزن القول كيف كان، ولا يبالى أن لا يتبين وزنه عندما توزع حروفه إلى نغم اللحن (الفارابي 1967 : 1153»؛ يعني كتاب (الموسيقى الكبير) لـ(الفارابي) تحقيق (غطاس عبدالملك خشبة).. وهكذا تم انفصال الضرب (الوزن الموسيقي) عن وزن الشعر في الغناء العربي الذي ما يزال معمولاً به حتى الآن» [المجلة العربية للعلوم الإنسانية عدد 35م 9 عام 1989 ميلادياً ص77 - 78].. ولقد ضرب المثال بموشح (يا هلالاً)، وكتبه كتابة موسيقية؛ ثم قال: «نلاحظ أن بعض المقاطع اللفظية تمتد بشكل زخرفي؛ لتناسب الوزن الموسيقي؛ ومثل هذا الأسلوب في التلحين يعتبر امتداداً لانفصال وزن الشعر عن وزن الضرب الموسيقي [قال أبو عبدالرحمن: ربما انتهت دراساتي العروضية التي لا تزال قلقة إلى القول بأن الزحافات والعلل الجارية مجرى الزحاف لا وجود لها إلا في الكتابة والقراءة، وأن اللحن يعيد التفاعيل إلى أصولها دون زحاف]؛ ونتيجة لهذا التغير فقد ظهرت في العصر العباسي والأندلسي أشكال غنائية جديدة كان من أهمها شكل شبيه بالنوتة ظهر في بلاط بني العباس، وكان ممهداً للنوتة الأندلسية التي طورها (زرياب) تلميذ (إسحاق الموصلي)؛ وكذلك ظهر الموشح الأندلسي.. وإلى جانب الأساليب الفنية تلك نمت أساليب غنائية ذات صفة شعبية مثل: القوما، والدوبيت، والكان كان».. انظر (المجلة العربية للعلوم الإنسانية ص 78 - 79)، وإلى لقاء في السبت المقبل إن شاء الله تعالى.. والله المستعان.