هدى مستور
تقف بطلة الفيلم اليائسة على حافة الهاوية لتضع حدًّا لحياتها، وفي اللحظة الحاسمة، الفاصلة بين الموت والحياة، حينما كادت تنزلق قدمها تسبقها ذراعا المنقذ الهمام!
لا تخلو تجمعات الأطفال من معارك وصراعات، قد لا تنتهي إلا بتدخل الكبار لفض الاشتباك، وهنا نقطة فاصلة ينبغي التنبه لها؛ لأنه قد يسهم الكبار في تشكيلها في الحياة المستقبلية التي تنتظر الصغار، فهل دفاعهم عن الطفل جاء بشكل متهور دون أن تسبقه مهلة للاستنتاج الصحيح؟ هل دفاعهم عن الطفل المتألم مشبوب بانفعال؟ هل يقوم الكبير نيابة عن الطفل المعتدى عليه في استرداد حقه، هل يساعده على النهوض، وفي تنظيف ما اتسخ من ملابسه، وفي التربيت على كتفه واحتضانه؟ إن وافق التصرف السابق رخاوة في نفس الطفل فإن ذلك ربما يقود الطفل إلى الشعور المستمر بالحاجة (للمنقذ الهمام).
من الحيل النفسية التي يقع فريستها عدد من الناس؛ أنه حين تضعف مقاومتهم، تجاه آلام جسدية أو مخاوف نفسية، أو حتى في مقابل شراسة أشخاص أو قسوة أحداث، يمنّي النفس بمنقذ مخلص يظهر بغتة، وعلى يديه ننعم بالشفاء والأمان وفي كنفه نحيا براحة بال وبكرامة. سواء كان المنقذ متجسدًا في تدخل من نوع الكائن البشري، أو قدر كوني، ودون أن نكلف أنفسنا عناء محاولة البحث في الأسباب الحقيقية وتحمل مسؤولية التشافي والإصلاح.
فعلى مستوى الأفراد انتظار طويل لـ(المنقذ الهمام) صديق شجاع، طبيب ماهر، كوتش مشهور، راقٍ تقي، معلم روحي، دجال يبيع وهمًا، زوج مُخلِص، إرث من قريب مليء، زواج مصلحة، معالج بالعلوم الشرقية كالريكي أو اليوغا أو التنفس التحولي... أو حتى رؤيا صالحة، قصة حب وادعة، وفي زمن التقنية يندرج ضمن المنقذ الهمام تحريك الجموع؛ بإنشاء الهشتاقات لكسب تعاطف المتابعين وغيرهم ونصرتهم له والاجتماع لإتهام لغريمه بصريح اللفظ بما لم يقو عليه وضعف دونه!
ولا يقتصر الأمر على انتظار منقذ من فئة (السوبر مان)
فهناك فئام من الناس يبحثون بشغف عن (منقذ روحيّ) وإن كان من فئة الجن المستترة عن الأعين، يخترق حجب المادة، يطير عبر الزمن، يأخذه بحجزهم في وسط ذهول، ودهشة، لينتشلهم من دنيا الضياع، والفوضى، إلى نعيم السكينة، والاستقرار.
وإن كانت هذه الحيل تخفف إلى حين من حدة التوتر النفسي، والشعور بالعجز، وضغط المسؤولية، إلا أن صاحبها يعتاد ممارسة لغة الانسحاب عند مواجهة المشكلة، بدلاً من الاعتراف بها تمهيدًا لمواجهتها، والاعتراف بأنه جزء منها، ومن ثم التخطيط الدقيق مع بذل جهد زائد لحلها.
وبما أن المشكلة باقية، فهي في طريقها للنمو والازدياد، وبالتالي فحياة هذا النمط من البشر كمن تمكن الإعصار من جذبه إلى دوامته التي تكبر سريعًا في حين أنه محبوس في بؤرتها ويحوم معها، قد أرخى عضلاته واستسلم بتفكيره، ولم يترجل، أو يبدِ محاولة لمعاكسة القوة الشرسة، والفرار من قبضتها.
أما على المستوى الجمعي، فلا نزال نرى ونسمع أمتنا تنتظر بعثًا جديدًا على غرار المغاوير الراحلين، ولا تفتأ ترثي في أدبياتها: صلاح الدين، والمجدد محمد بن عبدالوهاب، والمجاهد عمر المختار. وتمضي الأجيال تلو الأجيال وهي تنتظر المنقذ الوحيد: كالمهدي المنتظر أو غيره؛ فكلما لاح في الأفق حاكمٌ ينعش الاقتصاد ويكافح الفساد وينتصر للكرامة المسلوبة، علقت عليه الشعوب آمالها العراض من جديد.
إن شيئًا من تلك الأماني لن يتحقق بمعجزة خارقة للسنن الكونية، لكنه يبقى مرتهنًا بعدد من عوامل التغيير الفردي الداخلي، وسلاحها كامن في القوة الإلهية التي أودعت سرها بالمعجزة البشرية، والثقة المطلقة بالقدرات الخارقة في إبداع الإِنسان، متمثلة في الطاقة الكامنة التي لم يُعترف بها بعد. إنها الكرامة الإِنسانية، وهي أثمن ما أودعه الله من مؤهلات قيمية لدى الإِنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، ومن صورها تسخير الكون بضخامته وتذليله لخدمة الإِنسان {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ}، ومن ثم أنيطت بالإِنسان الإرادة الحرة لاتخاذ قرار تشكيل حياته، وهذا ما يضيف لحياته قيمة ومعنى، شرط ذلك إذا تم الاختيار بوعي ومسؤولية؛ أي الوعي بالوجود، وتحمل تبعة الاختيار؛ فالأمر كما قال جان بول سارتر (حُكم على الإِنسان أن يكون حرًا لأنه في اللحظة التي يلقى بها في هذا العالم، يصبح مسؤولاً عن كل شيء يفعله).
وإلا فما جدوى تفرد الإِنسان دون غيره من المخلوقات، لخوض امتحان يومي في قياس درجة صلابة الإيمان، ونفاذ البصيرة، ومستوى الحكمة، ودرجة الاحتمال في مواجهة الآلام، وشفاء الجروح، وصناعة الحلول، وابتكار البدائل؟!
ولذا ففي مقابل ذلك فمن واجب الإِنسان الإقرار بمسؤوليته الفردية الكاملة تجاه ما يحدث له، برفع مستوى الوعي لديه من خلال التأمل في قواه الكامنة، والمعرفة بسنن الحياة، وقوانين إدارة الكون، وإدراك طبائع الأشياء، وكذلك فهم الواقع من حولنا.
نفعل ذلك في حين تعترف قلوبنا ابتداءً بحاجتها الماسة للإيواء إلى ركن شديد.