د. عيد بن مسعود الجهني
الحديث عن النفط ذو شجون، فهذه السلعة السحرية أغلى وأهم سلعة عرفها الإنسان.. أضاء نورها الدنيا كلها، غيرت وجه الحضارة الإنسانية فأصبح النفط مادة هامة جدا تطال أهميتها جميع الأمم والدول والمجتمعات على وجه الكرة الأرضية.
وخلال قرن النفط المنصرم وهذه الألفية برزت أزمة الطاقة بقوة على حافة جميع الصراعات الدولية، وأصبح الحديث عن الأسعار المحور الأساسي على مستوى الدول.. والمكتبة الإعلامية الدولية من جانبها منذ أن تأسست الأوبك في أواخر عام 1960 وبرزت قوة اقتصادية سادسة في العالم منذ أزمة الأسعار الأولى عام 1973، أبرزت دور المنظمة على جميع المستويات.
منظمة (أوبك) التي تسيطر على 81.9 في المئة من الاحتياطي النفطي المثبت عالميا، وجدت عبر تاريخها أن التحكم في حجم الإنتاج زيادة أو خفضاً هو السلاح الأنجع لضمان عدم هبوط الأسعار، بينما ترد وكالة الطاقة الدولية على ذلك بأساليب الترشيد في استهلاك النفط وشهر سلاح المخزون الاحتياطي إذا دعت الضرورة وفرض الضرائب الداخلية على استخدام الطاقة، إلى جانب نشاطها في البحث والتنقيب وإيجاد مصادر بديلة على نحو يضمن لها استمرار إمدادها بالنفط الرخيص هذا في سنوات ارتفاع الأسعار الذي بدأت مسيرته في رمضان المبارك ـ أكتوبر 1973.
وقد مثلت شرارة ثورة الخميني والحرب العراقية ـ الإيرانية شعلة ارتفاع الأسعار التي أضاءت الطريق لعصر إمبراطورية «الأوبك» الذهبي، فقد شهدت السوق البترولية تشنجاً غير مسبوق وتهافتت الدول الصناعية التي تستهلك 75 في المئة من إجمالي استهلاك العالم من النفط وشركات البترول الكبرى على سوق النفط لزيادة مخزونها، وتزايد دور المضاربين، وهو ما جعل السعر يبلغ الـ40 دولاراً للمرة الأولى في تاريخ أسعار النفط في أواخر 1979وأوائل 1981.
بعد ذلك الارتفاع الصاروخي للأسعار بدأت مسيرة الهبوط لتبلغ (7) دولارات للبرميل في أواسط الثمانينيات وتبقى هكذا لينتشل الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990 الأسعار من الهاوية فرفعها من 12 دولاراً إلى حوالي 36 دولاراً، لكنها عادت إلى الانحدار بعد توقف العاصفة التي هبت على العراق آنذاك لتصل إلى 13.5 دولارا للبرميل عام 1994، بل إنها انحدرت إلى أقل من 10 دولارات في أوائل عام 1998 لتستمر على هذا المنوال حتى غروب شمس القرن المنصرم.
وقد جاءت النقلة الكبرى لأسعار النفط مع حرب احتلال العراق، لتشتعل أزمة الأسعار التي أخذت مسيرتها التصاعدية متفاعلة مع أسبابها، وفي مقدمها الحروب والصراعات الدولية والتضخم والعوامل الموسمية والمضاربات وانخفاض سعر صرف الدولار الأميركي الذي يسعر به النفط، أمام العملات الدولية.
وبقي حال الأسعار مرتفعا منذ 2003 حتى كسر حاجز 147 دولارا للبرميل قبل أزمة الكساد العالمي عام 2008 لتعود الأسعار إلى الانحدار مرة أخرى لتبلغ 33 دولارا للبرميل، الأمر الذي أجبر الأوبك على تخفيض إنتاجها المرة تلو الأخرى لتحقيق سعر عادل لنفوطها، بل إنها من أجل تحقيق هذا الهدف سعت إلى انضمام دول أخرى منتجة للنفط لضمان المرونة بين العرض والطلب وتحقيق سعر عادل، ومع ذلك التعاون استطاعت الأوبك في العام الماضي وتحديدا في شهر أكتوبر أن تحقق سعرا كسر حاجز الـ86 دولارا قبل أن يعود مرة أخرى إلى التراجع ليبلغ 50 دولارا واليوم يحوم سعر خام القياس العالمي (برنت) مابين (65 و 70) دولارا للبرميل.
هذا التحسن في الأسعار جاء رغم الطفرة في الإنتاج الأمريكي من النفط الصخري الذي نقل بلاد العم سام من دولة مستوردة إلى مصدرة بعد أن بلغ إنتاجها (12.5) مليون ب/ي، لكن على الجانب الآخر قابل هذه الثورة في الإنتاج الأمريكي تدني الصادرات الإيرانية بسبب العقوبات الأمريكية على ذلك البلد، ناهيك عن تدني صادرات فنزويلا من النفط بسبب مشاكلها السياسية الداخلية، ومما زاد الطين بلة مؤخرا فرض عقوبات أمريكية على صادرات فنزويلا من البترول الذي تستورد منه أمريكا صاحبة العقوبات (500) ألف ب/ي.
هذه المتغيرات في سوق النفط الدولية تركت آثارها على الأسعار والإنتاج الأمر الذي جعل من زيادة الإنتاج الأمريكي وتدنيه في دول أخرى كإيران وفنزويلا أن يتقارب العرض مع الطلب إلى حد كبير، وهذا بحد ذاته سبب رئيس جعل الأسعار تسير في وتيرة مستقرة، بل إن الأسعار في مستقبلها المنظور خلال السنوات الثلاثة القادمة قد تشهد نوعا من الارتفاع المحسوب الأمر الذي يجعل دولارات أكثر تدخل خزائن الدول المنتجة خاصة دول الخليج العربي وكلا من روسيا والمكسيك والنرويج وغيرها.
هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن منظمة الأوبك رغم أن حصتها في السوق الدولية لايزيد على 40 في المئة رغم احتياطيها الضخم ستبقى اللاعب الأكبر في السوق خاصة في حالات تدني الأسعار إلى أقل من (50) دولارا للبرميل، على عكس النفط الصخري الذي تحتفل أمريكا بطفرته اليوم يتوقع له أن يستمر على حاله لفترات أطول لارتفاع تكلفة إنتاجه، رغم التطور التكنولوجي في صناعته.
والمتابع لتطورات أسعار الذهب الأسود ومستقبلها خاصة بعد أن اتحد المستقلون من الدول المنتجة خارج الأوبك مع المنظمة ليشكلوا نادي نفطي ضخم استطاع أن يعيد للسوق استقرارها خاصة الدعم الذي كسبه هذا النادي من كل من السعودية صاحبة الاحتياطي الضخم (266.26) مليار برميل والإنتاج الكبير (10.5) مليون ب/ي، وروسيا التي تتمتع بنسبة إنتاج تتوازن مع المملكة ولها من الاحتياطي (80) مليار برميل، ومثل تعاونهما بوصلة هامة لدفة الأوبك.
واليوم في ظل ما تشهده السوق البترولية من رغبة من كل اللاعبين في هذا السوق منتجين ومستهلكين هدفها سوق نفطية مستقرة تخدم مصالح الجميع ضمن أسعار عادل بين (65 و70) دولارا للبرميل من شأنها دعم نمو اقتصادي عالمي معقول، يمكن القول إن مستقبل الأسعار إذا تحققت تلك الأسباب ستحقق للجميع سوقا نفطية مستقرة إلى حد كبير.
وإذا ما حسمت الحرب التجارية بين الصين وأمريكا من جانب والاتحاد الأوربي على الطرف الآخر، فإن في هذا دعما آخر لسوق البترول واستقرار أسعاره، والتي بلغت أعلى مستوياتها هذا العام عند (67) دولارا للبرميل، ناهيك التقليل من حدة الركود الاقتصادي الذي يسود العالم اليوم.
نقول هذا في ظل تعاون المستقلين مع الأوبك خفضا ورفعا للإنتاج طبقا لتقلبات العرض والطلب اللذين يؤثران على الأسعار سلبا وإيجابا، والذي توقعت الأوبك انخفاضه خلال شهر فبراير الماضي في هذا العام ليبلغ (1.24) مليون ب/ي.
ويبدو أن المنتجين للنفط التقليدي عموما الاوبك والمتعاونين معها يراقبون تلك السوق حماية لمصالحهم المشتركة، وعلى الجانب الآخر فإن (أمريكا) صاحبة النفط الصخري التي ليست من ضمن دول النادي النفطي تتابع سوق النفط صعودا وهبوطا لكون السعر المتدني لا يخدم مصالح صناعتها النفطية لارتفاع تكلفته مقارنة مع النفط التقليدي.
ورغم كل هذا يبدو أن مستقبل أسعار النفط في طريقها للتوازن المحسوب في ظل الشراكة (القوية) التي أثبتت جدواها بين المستقلين ومنظمة الأوبك الذي من نتيجته تخفيض الإنتاج (1.2) مليون ب/ي الذي سرى مفعوله اعتبارا من أول يناير الماضي، وتراجع إنتاج أوبك (300) ألف برميل خلال شهر فبراير الماضي مقارنة بالشهر الذي سبقه، ناهيك في ظل التعاون السعودي ـ الروسي، الذي يمكن وصفه (بالإستراتيجي) هدفه سوق مستقرة وسعر عادل يقبله المنتجون والمستهلكون.
ولعل اجتماع الأوبك وحلفائها في مقر المنظمة في العاصمة النمساوية فيينا في شهر أبريل القادم يدفع بعملية سفينة هذه الشراكة على طريق مستقبل أفضل لأسعار النفط، عنوانه سعر عادل مستقر بعيدا عن التذبذبات الحادة ارتفاعا أو انخفاضا، لتتمكن الدول المنتجة خاصة العربية من وضع متوسط تقديري لأسعار نفوطها الذي تحتسب ميزانياتها بناء عليه.