د. عبدالرحمن الشلاش
التجارة في العلم والآداب. في الفنون الراقية والشعر الرصين. في البحث العلمي أصبحت كاسدة ليس لها أسواق رائجة. بحسبة اقتصادية هي خسرانة ولا تشجع على المجازفة. فيما مضى قبل زمن التقنية، والوجبات السريعة، والنوم الطويل، والعمل القليل، وقضاء الأوقات في هوامش الحياة كانت العناية بذائقة الناس فائقة، بل إنها كانت تأتي في مقدمة الأولويات بالنسبة لأي مؤسسات علمية أو ثقافية أو فنية أو رياضية.
لم يكن الهدف تجارياً بقدر ما كان مضبوطاً بشروط الناس ومواصفاتهم العالية. بمعنى أدق كان المنتج مهما كان نوعه يقدَّم للمستفيدين وفقاً لذائقتهم العالية دون إسفاف أو ابتذال، لذلك كان الشاعر يعتني بقصائده، والمعد التلفزيوني ببرامجه، والمؤلفون بما يطرحون من كتب، والكتّاب بما يختارون من أفكار لمقالاتهم، وكانت صالات الندوات والمحاضرات والصالونات الثقافية والأمسيات الشعرية تعج بالآلاف من المتذوِّقين الذين لا يرضيهم إلا المميز من الأعمال مع رفض صارخ للإسفاف والخروج عن النصوص المتعارف عليها. كانت الذائقة العالية للجماهير تجبر المسوِّقين لأعمالهم على العناية الفائقة بما يقدّمون.
الوضع مع جيل اليوم اختلف كثيراً. حلم الشباب ليس قراءة كتاب أو مقالة أو قصيدة جزلة المعاني، وليس حضور ندوة أو أمسية تورَّط منظموها فلجؤوا لاستجداء الناس للحضور. قبل أسابيع وحين تورَّط أحد المنظّمين لمحاضرة وفوجئ بالإحجام الكبير من المدعوين عن الحضور لم يجد مخرجاً إلا الاستعانة ببعض الموظفين والعمال فطلب منهم الجلوس في المقاعد والصبر حتى تنتهي المحاضرة. حلم جيل اليوم لا تتجه بوصلته للعلم والثقافة أو الفنون الراقية، فقد خرجوا للحياة كارهين للثقافة محاربين للعلوم ناقمين على الجامعات والمدارس.
أحلامهم ببساطة تتركّز حول اقتناء الأجهزة الذكية من جوالات وأيباد، ومتابعة آخر صيحات الموضة والسهر والسفر والحصول على السيارات ومعاقرة شره التسوّق، أما طعامهم فمن الوجبات السريعة المفتقدة للشروط الصحية. كنت أراقب مجموعات غير قليلة من الشباب أثناء ممارستي لرياضة المشي المفضَّلة بالنسبة لي في مضمار إحدى الحدائق الكبيرة وهم يدخلون من البوابة يحملون الأكياس المثقلة بالوجبات السريعة والمشروبات الغازية ثم يجلسون تحت ظل الأشجار لالتهام ما تحويه ثم المغادرة. يتكرر هذا المشهد بشكل شبه يومي مع نفس الوجوه تقريباً ربما أولئك الشباب لا يدركون خطورة هذه الوجبات السريعة. يقول أحد خبراء التغذية إن الآثار المترتبة على الاستهلاك الكبير لـ «الجنك فود» خطيرة جداً ومنها الإصابة بالسمنة والسكر والضغط وتشحّم الكبد وسرطان القولون والجلطات!
تماهياً مع الذائقة الجديدة لجيل اليوم هبطت معايير الجودة. أصبح الكل يتسابق لإرضاء الجيل الجديد بتقديم الهابط من الأعمال. صار من يشار لهم بالبنان من الإعلاميين والأدباء والممثلين والفنانين والشعراء وغيرهم من يطرحون الأعمال السطحية المغلفة بالإثارة والملامسة لعواطف صغار العقول.
من يقدمون أعمالاً رصينة تراجعوا للصفوف الخلفية بسبب قلة من يتابعهم لأن من يحرص عليهم النخب وهذه الفئة النفيسة بدأت بالتآكل ويهددها حالياً الانقراض، فمن المسؤول عن هذا الهبوط الحاد؟ وكيف السبيل للارتقاء بالذائقة العامة؟