د. محمد عبدالله العوين
لا أتذكر كيف وصلت إلى مكتبة «المعارف» لصاحبها سعد الراشد في شارع العطايف الممتد من الشميسي الجديد إلى شارع الخزان؛ لكنني حين دخلت المكتبة الواقعة في منتصف الشارع على يسار العابر إلى الشمال بجانب سجن النساء قديما وجدت تاجر كتب لطيفا سمحا بشوشا محييا يلبس نظارة مقعرة ويرتدي غترة بيضاء بدون عقال، ويجلس قرب مدخل المكتبة الواسعة التي ضاقت أرففها بأحمالها فتكدست الكتب في الممرات، والزائر الشغوف مضطر إلى أن يقرأ عناوين ما على الأرفف ثم لن يستغني عن الانحناء طويلا أو الجلوس على الأرض للنظر في أغلفة الكتب التي لا تكاد تخرج عن كتب الفقه والعقيدة والديانات والمذاهب والأدب القديم شعرا ونثرا.
التقطت ما راق لي ولم يزد ثمنه على مائة ريال خبأتها في جيبي لمثل هذه المتعة النفيسة؛ ولكن الرجل الكريم الباش خصم نصف المبلغ الذي تستحقه هذه الكتب التي انتقيتها ثم زاد عليها ثلاثة كتب أخرى هدية منه، وقال: هذا تطميع لك؛ كي تزورنا مرة أخرى!
وبالفعل زرته مرات؛ لا مرة واحدة، وتحولت الزيارات إلى استمتاع بحديثه وارتياح إلى شخصيته وإعجاب بدماثة خلقه وتحوله - في نفسي - من تاجر إلى مروج للعلم والأدب وصديق لعشاق الكتب والشغوفين بالمعرفة.
وبعد سنوات من غيابي عنه بعد انشغالي الشديد بالأعمال الإعلامية والصحفية فوجئت بلوحة مكتبة المعارف البارزة على ناصية شارع الشميسي على زاوية مدخل شارع العطايف في عمارة حديثة أنيقة ولأول مرة أتعرف على الدكتور محمد الربيع الذي كان يبادل صاحب المكتبة الأحاديث الباسمة، وكان حظي في هذه الزيارة أكثر سخاء؛ فما في محفظتي سيتيح لي شراء كل ما أرغب من دواوين الشعراء وكتب النقد، اخترت أجمل الطبعات لشعراء العصر الجاهلي (وهو تقسيم نقدي قلق وغير قار وقابل لكثير من التأويل والنقض) وصدر الإسلام والأموي والعباسي، ونوادر كتب الإبداع والنقد الأدبي القديم.
كانت مكتبة المعارف المصدر الغني والرخيص لتكوين نواة مكتبتي الصغيرة في بيت متواضع أسكنه مع ثلاثة من أقربائي ولا أملك منه إلا غرفة بطول 3×4 م لا تتسع إلا إلى دولاب متوسط الحجم وطاولة للكتابة وسرير للنوم.
وخزنت ما لم يتسع له الدولاب في كراتين وأغلقتها بإحكام وخبأتها تحت السرير إلى أن ييسر الله لها مكانا يليق بها.
وهذا الدولاب كان بقية من أسرة نالها شيء من الثراء فانتقلت من منزلها الشعبي في حي «البكر» بطريق الحجاز القديم إلى حي العليا الجديد عام 1400هـ وتركت المرأة دولابها المهترئ فأتيت بالنجار ليجري عليه التعديل اللازم وليصبح جزءا منه للثياب المعلقة أما بقية الدرفات الثلاث الأخرى فأصبحت أرففا بعضها فوق بعض لخزن الكتب.
إن كنت غرقت في الثقافة الأدبية القديمة في مكتبة «المعارف» فإنني سأجد الحداثة لاحقا في مكتبتي «دار اللواء» للتويجري بشارع الوزير و»دار العلوم» بشارع الستين في الملز للعوهلي. يتبع