عروبة المنيف
تابعت منذ عدة أشهر خبر اصطحاب رئيسة وزراء نيوزلندا «جاسيندا أردرن» لرضيعتها «ثلاثة أشهر» إلى الجلسة الثالثة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في مجلس الأمن في مدينة نيويورك عندما حضرت مؤتمر نيلسون مانديلا للسلام.
لقد ظهرت في تلك الجلسة وهي تقبل رضيعتها وتحتضنها وتهزها قبل أن تلقي كلمتها. وتعتبر جاسيندا أول قيادية تجلب رضيعتها للاجتماع السنوي في مجلس الأمن. وعندما سئلت عن ذلك قالت: «لا بد أن أكشف موقفي للملأ فيما يتعلق بالأمومة أو الأبوة كما أفعل في أي رأي سياسي».
فكرت في الرسالة التي تريد إيصالها في ذلك الوقت، أعجبني تصرفها الذي حمل رسالة غير مباشرة لأمهات العالم، وكأنها تقول لهن: لا يمكن أن تكون الأمومة عائقاً في سبيل تحقيق أحلامكن وطموحاتكن، هو تصرف رمزي لكنه يحمل دلالات عظيمة.
لمعت في ذهني تلك البادرة واستشعرت حجم الإنسانية والمحبة في قلب تلك المرأة، عند متابعتي لردود الأفعال التي اتخذتها والطريقة التي قادت بها الشعب النيوزلندي بعد الحادث الإرهابي الذي تعرضت له البلاد، حيث قتل إرهابي خمسين مصلياً في مسجدين وقت صلاة الجمعة، وقلت في نفسي لا بد أن تكون تلك المرأة معلمة عظيمة لقدرتها على تحويل «مجزرة» حصلت في بلادها إلى حملة عالمية لصنع السلام، فقد عززت في المواقف التي اتخذتها بعد الحادث الإرهابي، قيم التسامح والتعاطف والتراحم بين أبناء الوطن الواحد باختلاف عروقهم وأصولهم ومعتقداتهم.
إن الحادث الإرهابي الذي حدث في بلادها ضد المهاجرين، حولته بحكمتها إلى حدث عالمي سلمي، ولقنت العالم درساً في الأخوة والتسامح والتعايش، «فرب ضارة نافعة».
تحت شعار «هم نحن ونحن هم» أعلنت الحداد في يوم الجمعة الذي أعقب الحادث وارتدت النساء في نيوزلندا الحجاب الإسلامي تضامناً مع أهالي الضحايا ومع المسلمين، ونقلت الصلاة على الهواء مباشرة في أنحاء البلاد، وحضرت إلى الساحة المقابلة لمسجد النور «أحد مسجدي الاعتداء الإرهابي»، وألقت كلمتها أمام ما يزيد عن خمسة آلاف شخص، مرتدية الحجاب ومفتتحة كلمتها بتحية الإسلام وبحديث للرسول الكريم وباللغة العربية: «مثل المؤمنون في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى».
لقد استطاعت تلك السيدة العظيمة خلال أسبوعين من وقوع الحدث الإرهابي أن تبث ثقافة احترام الاختلاف ليس بين أفراد شعبها فقط بل بين كافة شعوب الأرض، فهنيئاً لنيوزلندا تلك المرأة العظيمة.
رشحها البعض لجائزة نوبل للسلام لموقفها من ذلك الحادث الإرهابي، فهي المرة الأولى الذي يستثمر فيه حدث إرهابي ويتحول إلى حدث سلمي. لقد رفعت الحس الإنساني الداعي لقيم السلام والقبول بين شعوب الأرض. إنها تستحق الجائزة. فالدرس الذي أرادت إيصاله والمستقى من الحدث، لا يمكن لأي دروس تنظيرية أن تحقق نتائجه.
إضاءة: في خطابها الأول لأهالي الضحايا بعد الحادث، أمسكت بيدها الميكرفون وباليد الأخرى وضعت يدها على قلبها طوال وقت الخطاب. «حركوا قلوبكم لأن عقولكم قد تضللكم».