د. يوسف بن طراد السعدون
الإنسانية ترفض عداء الأديان الذي يؤدي إلى النزاعات وقتل الأبرياء، ويمكن لها أن تتحد صفاً واحداً لمحاربة الكراهية والتطرف والإرهاب. وقد تجلى جمال صورتها بما جسده النيوزيلنديون، رجالٌ ونساءٌ وقياداتٌ سياسيةٌ وطلبةُ مدارس وفنانون وغيرهم، من مساندة ومواساة للمسلمين المقيمين بأراضيهم بعد المجزرة التي نفذت بمسجدين في مدينة كرايست تشيرش.
وشهد العالم يوم الجمعة 22 مارس، بث أذان وصلاة الجمعة على مستوى البلاد في نيوزيلاندا ووقوف الجميع هناك دقيقتي صمت للذكرى الأسبوعية الأولى لتلك المجزرة، ونشر صحيفة «ذا برس» النيوزلندية على صفحتها الأولى كلمة «سلام» بالحروف العربية مع أسماء الضحايا. وشاركت رئيسة وزراء نيوزيلندا السيدة جاسيندا أرديرن مع آلاف النيوزلنديين في تشييع الضحايا، مطلقين حملة شعبية بشعار «هم نحن.. ونحن واحد»؛ وإعلان هذا اليوم يوم الحجاب الوطني بارتداء النساء في نيوزيلندا الحجاب تضامناً مع المسلمين، ومؤكدين للعالم أنهم لن ينحنوا للإرهاب.
والمملكة العربية السعودية، قلب العالم الإسلامي، بادرت في 19 مارس 2019، عبر مجلس وزرائها برئاسة خادم الحرمين الشريفين، بالإعراب عن تقديرها لرئيسة وزراء نيوزيلندا والشعب النيوزيلندي على تفاعلهم تجاه الجريمة التي استهدفت المسجدين. وجددت إدانتها لذلك الهجوم الإرهابي ولجميع أشكال وصور الإرهاب أياً كان مصدره.. مشددة على أهمية الالتفاف حول قيم المحبة والوئام والسلام واحترام الأديان وضرورة تجريم ومحاربة الخطابات العنصرية التي تغذي التطرف والإرهاب ولا تخدم السلم والأمن العالميين.
كما دعت، ببيان قدمته إلى مجلس حقوق الإنسان في 21 مارس 2019 بالنيابة عن 44 دولة، إلى اتخاذ تدابير حازمة وجادة لإسكات أصوات التطرف التي تنشر ثقافة الكراهية والتفوق العنصري والعنف. وتجسيداً لاهتمام القيادة السعودية بقضايا الإسلام والمسلمين في كل مكان، أقيمت يوم الجمعة 22 مارس 2019 صلاة الغائب في الحرمين الشريفين على ضحايا تلك الجريمة الإرهابية.
وما قدمته السعودية ونيوزيلندا في هذا الموقف يعد رسالة عظيمة للعالم أبرزت الجوانب المشرقة من النزعة الإنسانية بحب الخير لدى حكومتيهما وشعبيهما. وهو ما يجب نشره دولياً والبناء عليه لضمان أن يسود السلام والأمن أرجاء الأرض كافة.. وذلك يمكن أن يتم من خلال توثيق الروابط وتكثيف العمل المشترك لنشر المحبة والإخاء بين الشعوب، وبناء الثقة بإزالة اللبس الخاطئ في المعلومات عن المجتمعات والأديان، والتصدي لتنامي خطابات الحقد والكراهية التي يطرحها المتطرفون السياسيون والإعلاميون، بمختلف المجتمعات والدول، لإثارة النعرات وتأجيج التطرف من أجل مكاسبهم الشخصية مستغلين غياب القوانين الرادعة.
وهذه الأمور أصبحت مطلباً ملحاً في وقتنا الحالي الذي نشهد فيه طوفاناً من المعلومات الكاذبة تنتشر عبر الشبكة العنكبوتية بسرعة أكبر من انتشار الحقيقة.
وفي ظل ما يشهده العالم حالياً من تنامي العداء السافر للأديان قولاً وفعلاً، وتراخي الإرادة الدولية الصادقة لمواجهة ذلك نظراً للتجاذبات والنزاعات العديدة السائدة بالعالم، فالأمل محدود بقدرة المساعي الدولية المتعددة الأطراف على النجاح في ترسيخ دعائم التسامح بين المجتمعات والأديان بكافة الدول. والأنسب في نظري، أن تتحالف عدد محدود من الدول بعزيمة واثقة لبلورة نموذج فاعل في التصدي للكراهية وعداء الأديان، وتنفذ أعمال مشتركة تساهم في غرس شتلات المحبة والاحترام لكافة الأديان والإنسان ليراها الآخرون باسقة فيتبعون.
ولن يجد العالم دولاً أفضل من المملكة العربية السعودية ونيوزيلندا قادرة على حمل تلك الراية، وتستطيع الدول الأخرى، وقت ما شاءت، المشاركة لدعم تحقيق الهدف النهائي الرامي لخدمة الإنسانية جمعاء. ويمكن أن تتضمن إستراتيجية العمل المشترك عدداً من البرامج الفاعلة في هذا الشأن، ومنها: توثيق الروابط بين الشعوب من خلال تكثيف عقد لقاءات لجان الصداقة البرلمانية ومجالس الأعمال المشتركة ورجال الإعلام، وتنظيم منتديات حوار شبابية لتبادل الرؤى والمقترحات فيما يدعم جهود التصدي لعداء الأديان بالعالم، والتوسع في عقد الأسابيع الثقافية والفنية للتعريف بالهوية والموروث الثقافي، وتبني إنتاج أعمال مشتركة لأفلام كرتونية وسينمائية وتلفزيونية تدعو إلى المحبة والسلام والتصدي للتطرف والعداء.
تطوير خوارزميات تيسر وقف انتشار المحتويات المتطرفة والعدائية للأديان على شبكة الإنترنت، بتشكيل فريق عمل من المختصين لتولي هذه المهمة وبرعاية وإشراف وتمويل من شركات الاتصالات والتقنية وشركات منصات التواصل الاجتماعي.
الرصد الدولي لخطابات وحملات الكراهية والتحريض على عداء الأديان ونشرها دولياً، بالتنسيق فيما بين الهيئات المعنية بحقوق الإنسان، والتعاون المشترك لتأسيس مركز دولي لرصد ونشر تلك الخطابات يضم في عضويته ممثلين للأديان المختلفة.. حيث إن مع شديد الأسف ما يتواجد حالياً من مراكز رصد إنتاجها ليس منشوراً إعلامياً على نطاق واسع ولا يرقى من حيث المحتوى والعرض للمستوى المأمول.
السعي لسن قوانين دولية تجرم التطرف وعداء الأديان.. ولأجل ذلك يتم عقد مؤتمر عالمي عن أهمية وسبل التصدي لعداء الأديان برعاية مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ومركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات مع جهات مناظرة في نيوزيلندا والمنظمات الدولية المختصة. ليتسنى، على ضوء ما يصدر عنه من مقترحات وتوصيات، صياغة مسودة مقترحة لمشروع قانون دولي بهذا الشأن تتبنى المملكة العربية السعودية ونيوزيلندا بالنيابة عن الدول الأخرى تقديمه إلى منظمة الأمم المتحدة.
ختاماً: يقول الله -جل جلاله-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13) صدق الله العظيم.