د. حسن بن فهد الهويمل
حين تكون الحياةُ الدنيا تافهة لا تُساوي عند الله جناح بعوضة.
وحين تكون أنْفُسُنا اللاهثة وراء الأشياء ذاهبةً مع أشيائها.. وحين يكون كلُّ الذي فَوْق التراب تُراباً، تذروه الرياح..
- فلماذا تتوتر أنفسنا، وتتميز من الغيظ..؟
- ولماذا نفقد السيطرة على ألسنتنا، وأقلامنا..؟
- ولماذا يكيد بعضنا لبعض..؟
مشاهد أمتنا تفيض بالمتوترين، والمتشنجين، والظَّانِّين بالله ظن السوء، والظلاميين، وأنصاف المتعلمين.
ومع كل هذا الصخب والإيجاف تظل أحوال أمتنا كافة في الأسفلين.
هذا التوتر والتشنج أخَّرَ الأمة، ولم يُقَدِّمها، وأذَلَّها، ولم يُعِزّها.
وكل متابع يستشرف أحوال أمته يرجع إليه البصر خائباً وهو حسير. عندما أستعرضُ الصحفَ، وأستمع إلى القنوات، وأدخل عوالم المواقع الاجتماعية، أرى، وأسمع، وأقرأ العجب العجاب.
ودعك من الكذب، والافتراء، والتقوُّل على الله، وعلى رسوله، وعلى علماء الأمة، وعلى أهل الحل، والعقد.
لو تَذَكَّر هؤلاء المفترون الكذب قوله تعالى:- {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}، وقوله:- {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} لكفوا أيديهم عن البطش، وألسنتهم عن اللغو، وأرجلهم عن السعي فيما يغضب الله، ويردي أمتهم. ولكنهم قوم يجهلون. نسوا كلمة الحق، فأنسوا أنفسهم.
عالم السياسة يموج بالمتناقضات، ويفيض بالمفتريات.. والمرتزقة والعملاء يتصدرون منابره، ويملؤون سوحه.
وعالم الفكر تختلط فيه الرؤى والتصورات صارخة التناقض، ويتحكم فيه العقلانيون المعطلون للنص، والماديون المؤلهون للمادة، والمضطربون الشكوكيون. وقل فوق ذلك عن سائر العوالم الأخرى.
والعقلاء المستنيرون، العالمون، المجربون في حيرة من أمرهم.. يفرون من تلك العوالم فرارهم من الأسد؛ لأنها عوالم تحكمها الأهواء المؤلهة، ويختلط فيها الحابل بالنابل. وأغلب النظارة بُله، مبرمجون، وعوام لا يفقهون.
إنه واقع مأزوم، لا يقبل به عاقل، يحار في شأنه المقتصدون في أمورهم، القاصدون للحق، المتمثلون لخطاب الشرع المحكم، والعقل المستنير.
دول تعطي، ولا تأخذ، وتدفع بالتي هي أحسن، وتستبق الخيرات، يأتيها الأعداء من كل جانب، وتجتالها شياطين الإنس، ثم لا تجد ساعة من نهار لتفكر في شأنها. يُفْترى عليها الكذب، ويُؤلب عليها الرأي العام العالمي. وتُؤتَى من أطرافها، وكأنها بقية الشر.
لقد تساءلت، وحق لي التساؤل:-
- ماذا يراد بنا، ولنا؟
بَلَدٌ آمن، مطمئن، مسالم، تحاك ضده المؤامرات، وتدبر له الخيانات. لا تنبعث منه مُشكلة، ولا يُصَدِّر خرافة، ولا يفرض رأياً، ولا يروج لطائفة، ولا لعرق، ولا يتدخل في شأن.
همه رأب الصدع، وجمع الكلمة، ولَمُّ الشمل. وهو بكل هذا، ومع كل هذا، يشكِّل صمام أمان للذين يسعون ضده.
لو سقط هذا الكيان - كما يريدون - في وحل الفتن، كما سقط مَنْ حَوْله، لفقدت الأمة العربية آخر معقل لها، ولفقدوا هم أنفسهم أسْيِجَتهم التي يتمترسون خلفها.
شرود أذهان، وتشرد أبدان، والناس في غفلة عما يحاك لهم من مؤامرات، تَستهدف دينهم، وأخلاقهم، وسائر مثمناتهم.
ولعب كبرى يصنعها الأعداء، وينفذها الأغبياء، ضد حياتهم السوية، وأمنهم المضاع، واستقرارهم المُهْدَر. وهم في غفلة عن هذا عَمُون.
لقد سمعت، ورأيت، وقرأت ما يكفي أيسره للحث على وعي الواقع، واستدراك ما بقي.
أمتنا العربية بلغت الدرك الأسفل من العداوة، والبَغْضاء، والتشرذم. ولما تزل تجهل نفسها، وعدوها:- {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}.
لا بد من المراجعة، والمساءلة، والتفكير الجاد، لتدارك الأمر، والبحث عن الطريق القاصد، واستبعاد خطابات التوتر، والتشنج، التي لم تزدنا إلا خبالاً.
قادة الأمة، وقادة الفكر، والسياسة، وأهل الذكر هم وحدهم المسؤولون عما آلت إليه أحوال الشعوب العربية.
قد يقول قائلهم:- [لا يُطَاعُ لقَصير أمرٌ]. ونقول:- {قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
الإسلام، ولا غيره، ومن أراد العز بغيره خذله الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}. والله ليس ضعيفاً فيحتاج إلى النصر، ولكن نصره باتباع أمره، المتمثل بشرعه:- {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
عالمنا العربي لا تنقصه الكلمة؛ قال علماؤه ومفكروه ما فيه الكفاية. عالمنا يتطلب وعياً، ورؤية، وحلماً، وأناة، وتحرفاً، وتصرفاً، وانحيازاً للحق، وعملاً في حقوله كافة.
أمتنا بحاجة إلى إعادة النظر في كل أشيائها، وأخذ المثل من دول لما تزل تحتفظ بقدر كاف من الاستقامة. ولا نزكي على الله أحداً.
اللهم ثَبتنا على قولك الثابت؛ لنحمي حماك، ونُسَبِّح لك، ونُطَهِّرُ بيتك للطائفين، والعاكفين، والركع السجود.