د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
حول بعض أصحاب السترات الصفراء، حركة احتجاجات شعبية بدأت في فرنسا في نوفبر 2018م بسبب ارتفاع الأسعار، حولوا أهم شارع في العاصمة الفرنسية إلى ركام مشتعل من الأثاث والزجاج. وخلفت أعمال عنف 16 مارس فقط خسائر ما يزيد على 200 مليون يورو من الدمار. حدث هذا في وقت تفكر فيه الحكومة الفرنسية بإنزال الجيش لحماية شوارعها ومقدراتها السياحية مع اقتراب فصل الصيف والسياحة. ويتوقع المراقبون في ظل استمرار توسع الاحتجاجات موسمًا سياحيا كاسدًا في ظل تباطؤ اقتصادي ملحوظ. الأزمة الفرنسية مرشحة للتصاعد وليس التراجع في ظل مطالبات باستقالة الرئيس ماكرون بإجراء استفتاء حول استمرار رئاسته. والاستفتاءات تقليد سياسي فرنسي فقد استقال الرئيس الفرنسي تشالرز ديجول في عام 1968م باستفتاء بعد انتشار أعمال عنف في باريس آنذاك. ويطالب المحتجون بإعادة آلية الاستفتاء التي ألغيت فيما بعد، وإعادة ضريبة تسمى «ضريبة التضامن» تفرض على الأثرياء لصالح الفقراء.
فرنسا التي نصبت نفسها كدولة حامية لحقوق الإنسان في العالم شعارها الحرية، والأخوة، والعدالة اضطرت إلى إلغاء حق التظاهر في أماكن معينة من باريس من أهمها شارع الشانزليزيه حيث توجد أماكن تاريخية كثيرة منها قوس النصر الذي تسلقه المتظاهرون وكتبوا شعارات عليه، ومقاهي تاريخية قديمة أحرقت بشكل همجي كمقهى الفوكيت الشهير القديم، عمره أكثر من مئة عام ويعتبره الفرنسيون إرثًا تاريخيًا مهمًا. وكذلك المحال التجارية لأهم العلامات التجارية الفرنسية التي نهبها المتظاهرون وأحرقوا معظمها فيما بعد. بل أن المتظاهرين لم يوفروا حتى أكشاش بيع الجرائد التي تقع على الجادة اليمنى من الشارع ويملكها فقراء.
انقسم المجتمع الفرنسي حيال هذه الاحتجاجات التي دعمتها بعض أحزاب المعارضة وانظم لها شخصيات مشهورة منها الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند. ولكنهم أجمعوا حول نبذ أعمال العنف التي عزاها البعض لعناصر تخريبية مندسة بين المتظاهرين، وعزاها البعض الآخر لإظهار الرئيس الفرنسي تجاهلاً متعمدًا للحركة وتداول وسائل الإعلام صورًا له في منتجع تزلج فخم مع مجموعة من المحيطين به مما جعل جزءا كبيرا من المجتمع الفرنسي يتهمه بأنه يقيم في برج عاجي بعيدًا عن مشاكل فرنسا الحقيقية. وما زاد الطين بلة هو أن حكومة ماكرون هددت باستخدام الرصاص المطاطي ضد المتظاهرين قبل أن يتراجع عن ذلك.
المظاهرات أبرزت أسئلة كثيرة حول طبيعتها وسبل معالجتها. فالمتظاهرون وخاصة الغوغاء منه تعدوا على ممتلكات أناس لا ناقة لهم ولا جمل في سياسات الحكومة الفرنسية، بل إن كثيرا منهم يعاني من التباطؤ الاقتصادي ومن خسائر تجارية. ثم إن هذه الحركة التي بررت تظاهراتها بأسباب الفقر والضرائب أحرقت محلات كثيرة لفقراء مثلهم. وتساءل البعض عن كيفية اختراق الغوغاء لهذه الحركة السلمية واختطافها، وعما إذا ما كانت هناك جهات منظمة خلف ذلك؟ ولكن السؤال الأهم يبقى هو أن فرنسا التي ظهرت في الماضي بمظهر المدافع عن الحرية، والتي طالما انتقدت قمع المظاهرات في كل مكان وخاصة في أفريقيا لم تستطع أن تحل مشاكلها الداخلية، وتتجه الآن لمنع المظاهرات، وإنزال الجيش لقمعها! تمامًا كما تفعل دول العالم الثالث. ويتوقع أن تسن الحكومة قوانين جديدة تجرم العنف السياسي بعقوبات مشددة.
الأزمة البارزة اليوم في فرنسا لها إرهاصات مشابهة في كثير من الدول الغربية الرأسمالية، مثل بلجيكا، وربما بريطانيا، وحتى أمريكا حيث تزاد البطالة وينتشر الفقر وتتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء نتيجة لتغير النظم الضريبية فيها لصالح فئة الرأسماليين بحجة تحرير الاقتصاد ودعمه. كما توضح أحداث كهذه أمرا مهما جدًا وهو هذه الدول التي تتبنى أنظمة ليبرالية مرنة على الصعيد الرسمي والتشريعي، تعاني في عمقها من بنى ثقافية صارمة مغلقة تكرس التفاوت الطبقي والتمييز العنصري. هذه النظم المتجذرة في هذه المجتمعات التي أرثها التاريخ الاستعماري تعج بالطبقات المهمشة من الأعراق الأخرى التي رغم كونها موجودة لأجيال متعاقبة من عشرات السنين إلا أن وضعها بقي مهمشًا. أجيال تحمل جنسية هذه الدول بشكل رسمي، وتحميها الأنظمة كأجيال مواطنة إلا أن النظام الثقافي المتوارث لا يزال ينظر لها على أنها هامشية ومهاجرة، بل أن بعضها يقيم فعلاً في تجمعات سكنية فقيرة ومعدمة على هوامش المدن الكبرى. وعندما تقحم هذه التجمعات في المزايدات السياسية لليسار، كما تقحم الطبقات البيضاء المهمشة في مزايدات اليمين المتطرف، فالنتيجة هي أعمال احتجاجات قد تتحول لعنيفة مدمرة كما شاهدنا في باريس، وبعض المدن الأمريكية.