تأتي أهمية عرض هذا الكتاب على خلفية العمل الإرهابي الشنيع الذي ارتكب في مسجد النور في مدينة كرايس تشيرش في نيوزيلندا، والذي أدى إلى مصرع خمسين مسلماً قبيل صلاة الجمعة وجرح أكثر من أربعين آخرين، لتشخيص الأثر المدمر للتعبئة الإعلامية والفكرية ضد المسلمين في تشجيع الفكر اليميني المتطرف والإسلاموفوبيا.
- السياسي الألماني اليساري السابق تيلو سارَاتسين Thilo Sarrazin، ولد عام 1945م، وكان في شبابه ناشطا يساريا في صفوف الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني، وتدرج في العمل الحزبي والرسمي منذ عام 1975 وحتى عام 2010م حيث خرج إلى التقاعد، وكانت آخر مهامه الرسمية على رأس إدارة الميزانية في حكومة مدينة برلين. وبعد فترة قصيرة من تقاعده نشر أول كتاب له بعنوان (ألمانيا تلغي نفسها:كيف نلعب بمصير بلدنا Deutschland schafft sich ab)
وكان موضوع الكتاب الذي أثار ضجة إعلامية ومجتمعية عام نشره 2010 هو ما يزعمه من تهديد لطبيعة المجتمع والهوية الألمانية الناجم عن وجود المستوطنين والمقيمين الأجانب، ولاسيما منهم الجالية التركية، التي قال حينها بأن كل ما تضيفه للمجتمع الألماني هو أعداد جديدة من الفتيات الصغيرات المحجبات!
وقد فتحت مبيعات الكتاب، التي وصلت إلى 1,5 مليون نسخة شهيته على مزيد من نشر الكتب في ذات الموضوع، أو في مواضيع مشابهة ورديفة، مثل نقده الشديد لماضيه اليساري، ولطوبائية التفكير الثقافي المنفتح على الأعراق والديانات والثقافات وعلى المجتمع التعددي.
- بعد سنتين أي عام 2012 نشر كتابه الثاني بعنوان (أوربا لا تحتاج إلى اليورو:كيف قادنا التفكير السياسي الرغائبي إلى الأزمة Europa braucht den Euro nicht).
- ثم أتبع عام 2014 كتابه الثالث بعنوان (إرهاب الفضائل الجديد: حدود التعبير الحر عن الرأي في ألمانيا Der neue Tugend-Terror).
- وأما الكتاب الرابع الذي نشره عام 2016 فكان (التفكير الرغائبي: هل نحكم بشكل جيد؟ أم أن السياسة متخلفة عن إمكانياتها المتاحة؟ Wunsch-Denken).
- وفي العام الماضي 2018 نشر ساراتسين كتابه الأخير بعنوان (الاستيلاء العدواني:كيف يعيق الإسلام التقدم ويهدد المجتمع Feindliche Ubernahme).
وكما يلاحظ القارئ فإن مواضيع كتبه كلها تدور حول نفس الفكرة نقد السياسة القائمة المنفتحة على العالم، والتي ستؤدي في نهاية المطاف إلى استيلاء الإسلام على أوروبا وتغيير نمط العيش والتفكير فيها، وإلغاء الهوية الغربية السائدة وإحلال القيم الإسلامية المتخلفة برأيه مكانها، وإذا قارنا عنوان كتابه الأول بعنوان كتابه الخامس والأخير نرى تطابقا تاما مع اختلاف الكلمات، وقد استعار عبارة الاستيلاء أو الاستحواذ العدواني من عالم الاقتصاد، حيث تطلق هذه العبارة على استيلاء شركة ما على أخرى عن طريق شراء أسهمها المطروحة في أسواق الأوراق المالية (البورصة).
كل كتب ساراتسين تدور حول فكرة أن تخلف العالم الإسلامي، والقصور الشديد لدى الأقليات المسلمة في ألمانيا وأوروبا عموماً فيما يتعلق بالاندماج المجتمعي، واضطهاد النساء المسلمات كلها نتائج وتبعات اختلاف بنيوي بين التفكير الإسلامي وبين التفكير الغربي، وأنها كلها ظواهر للطابع المهيمن للإسلام على المجتمعات المسلمة من بلاد العرب وحتى إندونيسيا.
يحاول ساراتسين إيهام الألمان والأوربيين بأن التهديد الإسلامي قائم وملح وينبغي مواجهته والتصدي له فوراً وإلا فسيكون الوقت قد تأخر، حيث يزعم بناء على إحصائيات فرضية بأن المسلمين سيصبحون أكثرية في ألمانيا مثلاً خلال فترة لن تزيد على 40 - 60 سنة من الآن، وتعتمد تلك الإحصائيات الفرضية على عدد الولادات الحالية لدى المسلمين ومقارنتها بعددها لدى الألمان الأصليين، علما بأن الأجيال الجديدة من المسلمين أقل خصوبة من آبائهم وأجدادهم بمراحل.
الأمر الأكثر خطورة أن ساراتسين وأمثاله قد عدلوا عن القول بأن التهديد يأتي مما يسمى بالإسلام السياسي، أو حتى الإسلام الأصولي، إلى القطع بأن الإسلام بحد ذاته معيق للتقدم، ومعاد للعلم، ومؤصل لاضطهاد المرأة، وغير متسامح تجاه الآخرين، بل وعدواني أيضاً.
لمحة عن عناوين فصول
الكتاب الخمسة
1) الدين الإسلامي: في هذا الفصل يحاول ساراتسين تأصيل فكره الناقد للإسلام على أساس نصوص مجتزأة من مضامينها من القرآن والسنة النبوية، والأحكام الفقهية، وغيرها.
2) دول العالم الإسلامي من بلاد العرب وحتى إندونيسيا: وفي هذا الفصل استعراض لبعض الأوضاع المجتمعية والاقتصادية والتعليمية في بلدان العالم الإسلامي، مدعمة بإحصائيات ومقارنات.
3) المنطقة المشتعلة، المجتمع المسلم: وفي هذا الفصل يسلط ساراتسين الضوء على الأنماط التقليدية القائمة في المجتمعات المسلمة وعلى هيمنة الشريعة على العلاقات المجتمعية، والسطوة الذكورية القائمة فيها.
4) المسلمون في المجتمعات الغربية: وقد خصص هذا الفصل لنقد أوضاع الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية، وعيشها فيما يسمى بالمجتمعات الموازية، وارتباطها بالدين الإسلامي، والمستويات التعليمية المتدنية بين أفرادها، وارتفاع نسبة البطالة بينهم.
5) ما الذي ينبغي عمله: في هذا الفصل يتقدم ساراتسين بحلوله للمشكلة كما يتصورها على النحو التالي:
- لا ينبغي أن يحمي احترام الأديان الدين الإسلامي من النقد.
- لا ينبغي أن يعيق ضيق الأفق تفكيرنا الناقد.
- حماية سياسة الهجرة والاندماج من التفكير الإيديولوجي الرغائبي.
- تبني سياسة خارجية وتنموية جادة وحازمة تجاه العالم الإسلامي.
- تبني سياسة وطنية واقعية وصلبة تجاه الإسلام.
لفت نظر الجمهور إلى كتاب ساراتسين الجديد في النمسا مؤخراً عندما تمت استضافته يوم السبت 16-3-2019 من قبل حزب الأحرار اليميني في إطار تجمع حزبي في سياق حملة الحزب الانتخابية لانتخابات البرلمان الأوربي القادمة، حيث شارك في اللقاء زعيم الحزب هـ. س. شتراخه نائب المستشار الحالي، الذي زعم بأن عدد الأطفال المسلمين قد أصبح الآن في المدارس الابتدائية في مدينة فيينا يساوي 50 % من مجموع التلاميذ.
كما زعم هارالد فيلمسكي مرشح الحزب للانتخابات الأوروبية، بأن نصف المواليد في مدينة بروكسل يحملون اسم محمد.
وأخيراً زعمت الكردية السورية ليلى ميرزو بأن الوقت قد أصبح متأخراً وينبغي العمل فوراً لإيقاف التهديد الإسلامي، وذلك بالامتناع في الحال عن منح تأشيرات الدخول للمسلمين إلى أوروبا، والسعي الدائب لإعادة اللاجئين والمستوطنين المسلمين إلى بلدانهم الأصلية.
ولعله من المناسب القول بأن على المفكرين العرب والمسلمين، سواء منهم المقيمون في أوروبا أو خارجها، المشاركة في اللقاءات والندوات الفكرية، التي تدحض هذه الأفكار الإسلاموفوبية المنفرة من الإسلام والمسلمين، ومواجهتها فكرياً بالدعوة إلى تعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي بين الأديان والثقافات في المجتمعات الأوروبية، والتأكيد على أن الدين الإسلامي هو دين الوسطية والاعتدال والرأفة والرحمة.
** **
بقلم/ د. عبدالرحمن بن حمد الحميضي - الملحق الثقافي في النمسا