عبدالعزيز السماري
ظهر مصطلح «الجهل الإستراتيجي» لشرح تجاهل بعض المجموعات لحقيقة أو حقيقة ما عن عمد، وذلك لأنها لا تتناسب بشكل جيد مع وجهات نظرهم أو ما اعتادوا عليه، سواء كان ذلك لمصلحة جماعية، أو لأن واقعهم الاجتماعي لا يسمح بهذه الحقيقة، أو أن السلطة المعرفية التي يتم تداولها اجتماعيًا لا تسمح بظهور حقائق تؤثِّر على سلطتهم ومكانتهم.
بكلمات أخرى يعتمد الواقع المبني اجتماعياً لمجموعة من الناس المتشابهين على القبول المتعمد لبعض الحقائق والجهل المتعمد لحقائق أخرى، وهذا بدوره يخلق تأكيد التحيز، كما هو الحال مع معظم المجموعات، فإن تحيز التأكيد والجهل الإستراتيجي أمران شائعان في المجموعات المهتمة بالعلم الاقتصاد والسياسة.
في عالمنا الثالث تظهر هذه المرجعية بتنظيم أكثر، ولهذا يتم تجنيد الإعلام وغيره لخدمة هذا الغرض، وكان ذلك واضحاً وجلياً في دول العسكر العربية، فقد قامت وحكمت على بنية التجهيل المنظّم، فطائرات الأعداء كانت تسقط بأعداد كبيرة، بينما وصلت جيوشهم إلى مشارف العاصمة العربية.
في الصراع بين العلم وبعض المفاهيم الدينية، كان ذلك واضحاً وجلياً في مجتمعات أخرى، فإصرار البعض على صحة بعض المقولات أو النصوص المتداولة في مواجهة الحقيقة العلمية، ومن ثم نشرها بين الناس يُعد من أشهر ظواهر الجهل الإستراتيجي وأقدمها وأقواها تأثيراً، فالغرض لم يكن عبادة الله عزَّ وجلَّ، ولكن من أجل استمرار السيطرة على العقول.
يظهر التجهيل المتعمّد في صورة بشعة في مجالات صناعة الأدوية والسلع الأخرى، فتضليل المستهلك قاعدة في الترويج عن سلعة ما، والهدف بيع أكبر كمية من السلع قبل أن تظهر الحقيقة، ويتمادون في ذلك لغياب قوانين حماية المستهلك، وضياع حقوقهم المالية.
يقوم الجهل الإستراتيجي على حقيقة ناصعة، وهو التأخير في تطوير أو تغيير مفاهيم ثبت أنها متأخرة أو متخلفة، ويظهر ذلك في مختلف العالم في العمل على تأخير تطوير بعض الأنظمة في مواجهة التلاعب بالحقائق، ولعل أشهرها في العالم الثالث، وذلك عبر تجهيل منظومة القضاء في حين تجاوز آليات العمل والصراع في المجتمعات تلك المنظومة المتخلّفة عن الركب.
تعد السياسية أكبر مساحة يكون فيها للتجهيل الإستراتيجي دور أكبر، فالسياسيون في مختلف العالم وعلى اختلاف ثقافاتهم يتحدثون في بعض الأحيان ببراعة من خلال هذه الإستراتيجية، وتظهر بوضوح في تعالي الأصوات في الانتخابات الدورية، لكن الحرية النسبية في الإعلام قد تقوم بدور المحقق غير الرسمي لكشف هذه الظاهرة في كلمات الخطب الرنانة.
في ظل شيوع هذه الظاهرة، نحتاج إلى إدراك أكثر لشيوع هذه الظاهرة، ومقاومة الافتراض المعتاد بأن المعرفة أقوى من الجهل، فالحقيقة تقول إن التجهيل المنظّم أقوى بكثير، وذلك لأن الجهات الفاعلة الاجتماعية لديها مصلحة واضحة في التأثير السلبي على المعرفة أو محوها لو استطاعوا، ولذلك قد يحد افتراض فوقية المعرفة والعلم من فهم الطرق التي يتم من خلالها تمكين تنظيم الجهل وسطوته..