د. محمد عبدالله العوين
كان صوت الشيخ عبد الحميد كشك يصدح بين ممرات ودهاليز عمارة الدغيثر، وبائع الأشرطة بحسه التجاري ينتقي أكثرها حماسة وانفعالا؛ ليجلب إليه هواة هذا اللون من الخطب الحماسية، ولا شك أن هذا الخطيب الضرير مفوه بليغ فصيح وذو صوت جهوري يتلاعب بمستوياته خفضا ورفعا حسب المقام ليبلغ به أقصى درجات التأثير في مستمعيه، ويجيد توظيف النصوص التي تؤكد المعنى من الآيات القرآنية الكريمة أو الحكم والقصص المعبرة، ويعتمد على إثارة العواطف وتحريك الأشجان بالتوقف عند زهو الانتصارات أو ألم الانكسارات، لقد كان علامة فارقة في مرحلة مهمة من مراحل التحولات الفكرية والسياسية في المحيط العربي كله، ورمزا من رموز الإخوان، وبخطبه استطاع تحشيد ملايين المتعاطفين مع تيار الإخوان ليس في مصر فحسب؛ بل حتى في بلادنا.
لقد كان الشيخ عبد الباسط وكشك رمزين صوتيين مهمين ومؤثرين في تحريك المشاعر الدينية وإحيائها؛ غير أن المقرئ الموهوب العظيم لم يكن له انتماء حزبي أو توجه أيدلوجي، بل وهب صوته لخدمة كتاب الله، بينما طغى الانجذاب الحزبي على خطب كشك.
لقد كان شارع البطحاء مطلع التسعينيات الهجرية من القرن الماضي وطوال عقدين محطة بث ثقافي وأدبي وفكري تتآلف فيه الاتجاهات ويجد الراغب في أي لون ما يشبع نهمه، ففي هذه البناية بدءا من مكتبة الحرمين ومرورا بمكتبة الرياض الحديثة ثم مكتبة النصر ثم المكتبة السلفية يجد القارئ الراغب في المعرفة والاطلاع والتذوق الفني ما يريد، فيجد من المجلات الإخوانية مثلا: الاعتصام والمجتمع والبلاغ، ويجد السلفية المستقلة كالدعوة، ويجد اليسارية كصباح الخير وروز اليوسف، ويجد الثقافية الرصينة كالعربي، والمنوعة كالمصور وآخر ساعة، وهكذا، ويجد أيضا عبد الحميد كشك، ويجد متذوق الفنون بغيته على بعد خطوات قليلة في حي «الحلة» حيث محلات بيع العود بأحجامه وألوانه وزخارفه المختلفة وأدوات الطرب على اختلافها والتسجيلات للمغنين والمطربين السعوديين والعرب؛ بدءا بحجاب وعيسى وطاهر الأحسائي وانتهاء بطلال مداح ومحمد عبده، وامتداداً إلى أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ.
اخترت ما راق لي من أشرطة كشك ووعدت نفسي بليال ملاح ومشاوير مبهجة في السيارة على طرق طويلة خارج البلدة خالية من السيارات إلا في النادر، أراوح في تلك المشاوير الطويلة بين الاستماع إلى كشك والسيدة أم كلثوم.
وكنت لا أجد تناقضا بين حالتي الاستماع التي تتفاوت في أوقاتها؛ فأجد عند هذا الخطيب بلاغة وتمكنا في الأداء وملامسة جريئة لما يتحدث عنه، وأجد في فن السيدة رهافة في الإحساس وجمالا في الصوت وإبداعا في الكلمة وعبقرية في اللحن.
لقد كانت الرياض لمثلي آنذاك حديقة غناء، أقطف من أزاهيرها الفواحة أرق العبير وأطيب الرائحة من مكتبات وتسجيلات البطحاء إلى مكتبة المعارف بشارع العطايف لصاحبها سعد الراشد، ثم مكتبة الدخيل بشارع الخزان، ثم مكتبة دار اللواء لصاحبها عبد العزيز التويجري. يتبع