منذ السطور الأولى لقصائد الشاعر سعود الصاعدي في ديوانه «ما قاله الماء لليابسة» تشعر أنك في حديقة مزهرة نبتت من وحي الخيال الذي زاوج بين الماء واليابسة حيث أنشأ فيه الشاعر ومنه وعليه زورقه الشعري بحثًا عن سقوف المجاز ودهشة المعنى.
جمع الديوان بين دفتيه خمسًا وأربعين قصيدة تتراوح بين الطول والقصر، وجعل الشاعر مجموع العناوين بين عنوانين هما «أول الملح» و«آخر الزبد». ولعل اللافت للانتباه أن الشاعر قد سطَّر عنوانين للديوان؛ العنوان الأول هو «ما قاله الماء لليابسة» والعنوان الثاني يأتي مباشرة في الصفحة التي تلي العنوان الرئيس هو «أول الملح آخر الزبد»، ويليه مباشرة الإهداء، وكأن هذا العنوان الأخير تتمّة للعنوان الرئيس، بحيث يبدو إجابة عن مقول القول. فإذا اعتبرنا العنوان «ما قاله الماء لليابسة» جملة تنتظر جوابًا حاسمًا لسؤال مضمر، فيصبح الديوان محتضنًا بمقول القول: فما قاله الماء لليابسة هو أن أول الملح هو آخر الزبد، وينعكس التمازج بين الماء واليابسة في خلق الثنائيات الضدية البصرية واللغوية التي تشكلت في صورة الغلاف ومتون القصائد، حيث جعلت نصوصه نصوصًا حركية تحدث الهزة الفكرية والرؤيوية مجسدة تفاعل الذات الشاعرة بالذات الإنسانية وقضاياها لا نصوصًا سلبية تقرّر مجموعة أشياء وظواهر.
يغلب على صورة الغلاف اللون الرمادي، إنه لون شبه التضاد الذي يجسد في المربع السيميائي المخاض؛ مخاض الولادة العسيرة؛ فهو بين الماء واليابسة، وبين الوجود واللا وجود، بين الأفق والحدود....وأما الماء /البحر بلونه الأخضر الصافي وموجته المحفوفة بالزبد فشكلت انحسارًا على اليابسة بين مدّ وجزر، ولعل هذه المزاوجة المتمثلة في الصورة بين الماء واليابسة تحمل في بنيتها العميقة، بداية خلق الإنسان، والطين مزيج بين التراب/اليابسة، والماء/البحر، فهل يسعى الشاعر في هذا الديوان للحديث عن الإنسان؟ أم أنه يحاول أن يستمد مبدأ الخلق من أجل أن يتخلق الديوان من طينة الكلمات كونًا مستقلا يسيّره الشاعر؟
يقول الشاعر في عتبة الإهداء:
«إلى أودية الأحلام.. ومنابت الشجن!
إلى الذين نبتوا وأورقوا وتشجّروا
في أعماقي!»
تحضر اليابسة والماء في الإهداء وكأن الشاعر يعمد إلى ذلك قصدًا، كما تتجلى سمة الخلق، والنبات، فالشاعر يهدي ديوانه ربما إلى والديه أو أبنائه الذين نبتوا وتشجر حبهم في أعماقه، ولكن السؤال المطروح لماذا استعار الشاعر الأودية / النبات ، ثم لماذا يتغلف الإهداء بنبرة حزينة قوامها الشجن الذي يحمل معنيين: الهم والحزن، والغصن المشتبك، فهل نبتت محبتهم في أعماقه وتشابكت وتجذرت، وبفقدانهم ينبت الحزن أيضا؟ تلك أحاسيس الشاعر التي عبّر عنها بحساسية مفرطة في هذا الإهداء، ولكن ما يستوقفنا هو فكرة الخلق التي بدت واضحة منذ البداية في رحلة بحثنا عن المعنى.
فإذا نظرنا إلى متن القصيدة الأولى «أول الملح»، فإن المتصدرة بالقول أنثى، والأنثى تتشاكل مع الأرض/ اليابسة التي هي الرحم الأولى:
«قالت له:
يابحر
مهما فاض موجك
في دمي
مهما تسرّب ملح مائك
في ملوحة أدمعي
سأظلُّ
في أعراف هذا الماء
تلك اليابسة!»
فالمخاطَب ذات ذكورية، فتتلبس الذات الأنثوية باليابسة، وتتأنسن (مهما فاض... في دمي ... في ملوحة أدمعي)؛ لعل أول الملح، هو أول الحلم، الذي ربما يتوق إلى التحقق.
فالذات الأنثوية متأكدة أنها مهما امتزجت بالماء وتحولت طبيعتها إلى طين، فإنها ستظل في عُرف الماء تلك اليابسة، ولعل علامة التعجب هنا تشير إلى الاستنكار، فالمفارقة هنا تحيلنا إلى الاختلاف، فمهما تمازجت الأضداد يظل كل عنصر يتوق إلى أصله، فهل تتوق ذات الشاعر إلى الاختلاف ،أم أن سلطة الأعراف تجذبه إلى أصله؟
ولعلنا بجولة سريعة في مفاصل الديوان نلتقط بعض الثنائيات الضدية التي تتصارع داخل كينونة الشاعر، والتي تشكل أطراف الحكاية الشعرية التي يعتمدها الشاعر للتعبير عن نسيج رؤياه، فهو بعد قصيدة «فاتحة الكلام» ينتقل مباشرة للحديث عن ذاته في قصيدة كينونة:
«أبحرت في غسق بلا مجداف
ونأيتُ مبتعدًا عن الأعراف!
شطران فيّ يقاتلاني رغبة
وأنا أحاول فيهما إنصافي!
في العقل أضواء المدينة تلتقي
والقلب فيه بساطة الأرياف!»
يكمن الجمع هنا بين بساطة الريف وأصالته، وأضواء المدينة ومستجداتها، فهو مبحر في ظلمة البحر بلا مجداف، مبتعدًا عن الأعراف، باحثًا عن أضواء المدينة التي تسيطر على عقله، وبين الظلمة والنور، والعقل والعاطفة تمتزج البساطة مع العقل المستنير ، فتلك هي كينونة الشاعر بين مدّ وجزر كموجة تتلاطمها الرياح تارة تمتزج باليابسة، وتارة تنحسر عائدة إلى البحر /أصلها:
فإذا ادلهمّ الليل صرت بداخلي
متشظي الأفكار والأطياف!
وبقدر ما هذا الظلام ينيرني
ويحيلني أبدًا إلى أسلافي!
...
أقتاته رعبًا وأبصر عالمًا
قلق الرؤى متدثرًا بلحافي!
....
«يا رب عفوك
إنني متزمّل بمخاوفي
في حاجز الأعراف!»
يتشظى الشاعر بين سلطة الأعراف، وبين ما يمليه عليه عقله من الخروج من تلك الشرنقة التي تمنعه من الانعتاق، وكأن الشاعر يرفض التماهي التام، فهو يحاول أن يمزج بين المدينة والريف ، بين العرف ومستجدات المعاصرة لخلق التوازن الروحي، فالشاعر مبحر منذ البداية في لجة الحياة/البحر يبحث عن برّ الأمان، ولاشك في أن الإبحار تكون نهايته اليابسة التي هي شاطئ الأحلام ،أو أول الملح عندما ينتهي البحر بزبده . ومن ثم تتحول الأضداد إلى شبه التضاد؛ فهو لا حرب ولا سلم، ولا يابسة ولا ماء، ولا ظلمة ولا نور، إنه التشظي بمعنى القلق الوجودي السرمدي واللا متناهي .
ويبقى الشاعر مع صراع الأضداد وشبه التضاد في كيانه، للمزاوجة في قصيدة «فرح حزين» بين فرح أبيه وحزن أمه، ويحاول أن يوائم في بنية المخاض بينهما كي يحقق ذاته:
«فرحٌ وقور
كان يشرق من أبي
فيضيء للدنيا
إضاءة كوكب
.....
وغلالة الحزن النبيل
إذا بدت
في وجه أمي
مثل شمس المغرب
...
فأنا أحاول
أن أؤلف في دمي
هذا النقيض
لكي أحقق مذهبي!
وكما نسجت رداء عمري منهما
ألتف بالفرح الحزين وأحتبي!
أبكي وأضحك في زمان واحدٍ
وأرى التصحر في المكانِ المعشب»
فبين الفرح والحزن، والبكاء والضحك، والجذب والخصب تتصارع الأضداد، ويتخلق الائتلاف من الاختلاف، فبالأضداد تعرف الأشياء ،وبشبه الأضداد يتشكّل الكون، وبالأضداد ينسج الشاعر رداء عمره، وبشبه الأضداد يتخلق الديوان، ويتشكل المعنى.
فهذا المزج الدرامي بين الحزن والفرح، والبكاء والضحك ينعكس على كافة قصائد الديوان ويتشظى على بعض عناوين القصائد مثل :فناء مزهر/فرح حزين/اخضرار العتمة /احتفال عاصف /ثورة الحب.
ويبقى شبه الأضداد المولد للحلم هو البؤرة لمنابت الكلام حيث يختم الشاعر ديوانه بقصيدة آخر الزبد بقوله:
«يا أيها الوجه القديم
بداخلي
عيناك غارقتان
في ماء الملامة
وابتسامتك القديمة
عابسة»
فبين الماء واليابسة في «أول الملح»، والابتسامة العابسة في «آخر الزبد» ينبت «الكلام البكر وتشرق من بكارته البكارة» ويولد الحلم من المخاض:
«حالما
قد سألت
ولي أن أقول»
....
«ولا تمتطوا غير أحلامكم
ففي كل حلم
ينام زمان
ويصحو زمان»
«حلمي الصغير
نما..
فأصبح وارفًا
يهمي عليّ
بأصدق الأحلام»
ينمو الحلم ويكبر في كيان الشاعر، ليصبح حقيقة يؤمن بها، وهي أنه من الممكن أن يتعايش الضدان، توقًا إلى الحب والسلام وتجلياتهما المشرقة خارج حدود الزمان والمكان:
فالخيّرون
ومثلهم شرّ الورى
هم في الحقيقة جوهر الأنعام!
والشعر نايي
حين أعزف حبهم
لن ينتموا أبدا
لغير سلامي!
فالشاعر منذ البداية يخلق كونًا شعريًّا يحاكي به الكون الحقيقي، ويبحث عن السلام الداخلي بائتلاف الأضداد:
من لم يخض
لج الخصومة
لم يعش بدء الخليقة»
فالكون الذي يبحث عنه الشاعر هو الكون الشعري الذي تتصارع فيه الكلمات؛ لكي تتخلق منها القصيدة التي عبر عنها:
هو الكون
مستودع للمجاز
وجسر
إلى اللغة المستعارة!
هي الظبية السرمدية
نافرة في رؤاه الفسيحة
لم تستطعها
قيود العبارة!
هكذا يكشف الشاعر عن مكنوناته لتصبح القصيدة غزالة شاردة، فكأن الشاعر يركض وراء الكلمة كركض الصياد خلف الغزالة، فكونه يتشكل من الاستعارات؛ لأنه مستودع للمجاز ولكن الشاعر يكابد معاناة القول الشعري ويحاول أن يتخلص من حصار القصيدة القديمة، وإشعاع القصيدة الحديثة ، وهو بين مدّ وجزر هذا ما قاله الماء لليابسة، وما خطه قلم الشاعر من شعر (ماء الحياة)،على الورقة (اليابسة) بحثًا عن السلام الداخلي في تركيبة درامية تلامس هواجس الذات ومعاناتها السائرة بخطوتين خطوة إلى الماء، وأخرى على اليابسة.
** **
مستورة العرابي - باحثة وأكاديمية بجامعة الطائف