د. عبدالحق عزوزي
في 15 مارس/ آذار الجاري قام أحد المتطرفين العنصريين من أصول أسترالية بهجوم مسلح على مسجدين للمسلمين بمدينة كرايست تشيرش جنوب نيوزيلندا وأردى نحو 50 شخصًا قتيلاً وأصاب عشرات الآخرين. وهي المجزرة الأولى من نوعها في تاريخ هذه البلاد الهادئة التي تقع جنوب غربي المحيط الهادي، ويفصلها عن أستراليا 1500 كيلو متر عبر بحر تسمانيا. وهي عبارة عن عدد كبير من الجزر المعزولة معظمها صغير ولكن من بينها جزيرتان كبيرتان نورث أيلاند، ويسكنها ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وساوث أيلاند وهي الأكبر ويسكنها أكثر من مليون نسمة. ويبلغ عدد المسلمين في نيوزيلندا 47 ألف شخص، أي واحد في المائة من عدد السكان. ولكن على الرغم من ضآلة تعداد الأقلية المسلمة فإنها تعد واحدة من أكثر الأقليات نشاطًا، كما أن أعضاءها من أكثر المهاجرين اندماجًا في المجتمع وطلبًا للعمل كما أن أغلبية المسلمين في نيوزيلندا يتبعون المذهب السني.
الإرهاب الأعمى الذي ضرب نيوزيلندا ليس هو الأول من نوعه؛ فنحن نتذكر الاعتداء الذي كان قد هز منذ سنوات النرويج من طرف شاب لا يتعدى عمره 32 سنة حيث سعى حسب زعمه إلى «تطهير أوروبا من المسلمين بحلول 2083» بإشعال «حرب صليبية ضد المسلمين»؛ وكان قد نشر على الإنترنت قبل إقدامه على هذا الإجرام المدان، «مانفستو» أو ميثاقًا في 1500 صفحة كتبه على مدى ثلاث سنوات، يجمع بين دليل صناعة القنابل، وما يظنه عن الإسلام والتعدد الثقافي في أوروبا والعالم، وما يظنه عن سياسات أصحاب القرار في أوروبا، والاستشهادات التاريخية بالمسيحيين المتطرفين والسياسة الدعائية المغرضة؛ وتنبأ السفاح بريفيك بأنه سوف ينعت بأكبر وحش نازي منذ الحرب العالمية الثانية «وأنه قائد فرسان الحق».
إرهابي النرويج كان نتيجة الخطابات والسياسات الأوروبية السلبية في حق المهاجرين المسلمين منذ عقود، غذتها باستمرار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وجعلت المسلمين رهائن لحسابات سياسوية وأمنية خلطت بين الأخضر واليابس، بين الهجرة والإرهاب، وبين الإدماج والمخدرات والجريمة؛ وازداد هذا العداء الرسمي الذي يجد له مريدين في المجتمع مع خطر الهجمات الإرهابية بعد 11 سبتمبر 2011 الذي يكبر له كل من أراد أن يجمع أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات، وحملات حرق المصحف كما حدث بالولايات المتحدة الأمريكية والآن حرق المساجد بسويسرا، والتأييد الشعبي لمنع بناء المآذن كما حدث في سويسرا وحظر النقاب كما وقع في فرنسا.
وقبل أخذ القرارين (منع بناء المآذن وحظر النقاب) نتذكر أنه قامت الدنيا ولم تقعد في سويسرا وفرنسا، فأنشأت المجالس المختصة في البرلمانات، وأقيمت المؤتمرات والبرامج التلفزية اليومية على طول السنة، وتدخل رؤساء الدولتين ومستشاروهم في أكثر من مرة، لشرح حظر بناء الصوامع ووضع النقاب ومن خلال ذلك وجود المسلمين فوق ديارهم، وصعوبة إدماجهم، وتسارع الجريمة بمقدم الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين، وتأتي الجماعات الغربية المتطرفة لا لتؤازر هاته السياسات، بل لتوبخها لأنها لم تتبعها منذ عقود، لتظهر أكثر صلابة وقوة وتزيد في هجماتها على الإسلام والمسلمين.
ولا جرم أن الأفكار التي تتغذى منها بعض المجالات السياسية العامة كالعنصرية والتطرف، والقومية والاستعلاء والخوف من الأجنبي تجد لها قاعدة كبيرة في عديد من الأحزاب خاصة اليمينية المتطرفة، لأنها سريعة الولوج إلى أذهان الغربيين، خاصة مع الأزمات اليومية التي يمر منها الإِنسان الغربي وعلى رأسها أزمة البطالة وغلاء المعيشة.
ما كان قد وقع في النرويج وما وقع للأسف في نيوزيلندا هو درس موجع لكل السياسيين الأوروبيين الذين تسلقوا سلالم المناصب على حساب تأجيج وتغذية الكره للإسلام والمسلمين والنفخ في العداء؛ وكم أعجبتني تحليلات الإعلام العربي في أغلبيته لأنه لم يصف الإرهاب النرويجي أو النيوزيلندي بإرهاب مسيحي... فالإرهاب لا دين له ولا ملة بل هو آفة عالمية يتغذى ممثلوه على كره الآخر حينما يظنون أن حضارتهم في خطر، وغاب على هؤلاء أنه مهما كانت نوعية الحضارة، فهي نتاج تلاقح عدة شعوب وأعراق شتى، تنتمي إلى ثقافات متعددة تصب جميعها في اتجاه تتشكل منه الحضارة، أو بمعنى آخر فإن الحضارة وعاء لثقافات متنوعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت فشكلت خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإِنسانية في إشراقاتها وتجلياتها وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعًا.