د.خالد بن صالح المنيف
في «كوبنهاجن»، وفي أوائل الخمسينات، التقى مدير السِّكك الحديديَّة بصديق له صحفيِّ، تجاذبا أطراف الحديث، وأباح الأوَّل لصديقه الصحفيِّ همَّ أخيه المقعد وضيقه؛ فهو لا يبصر في هذه الدنيا عبر نافذته إلا شيئًا يسيرًا من السماء، وشجرةً قد يبست غصونها.
وعلَّق الثاني على الفور قائلًا: الحلُّ في القطار!
قال: كيف؟ فردّ عليه صديقه: في القطار حياة أخرى؛ حيث تتنوّع المناظر وتتبدَّل!
فقدحت حينها فكرة عند الصَّديقين! وهي تنظيم رحلة لأخيه ومن هم في حالته، وكذلك المهمومون، ومن يعانون الأمراض والأوجاع ومن ضاقت بهم الأرض، وممن قضى عمره طريح فراش، أو أسير مرض، في قطار يجوب بهم كلَّ مناطق الدنمارك بين أنهار تملأ بزرقتها النفس بهجةً وراحةً، وجبال شامخة تعانق الأفق، في جولة بين أحضان السّهول المستبشرة التي تخشع معها الأرواح وترقُّ النُّفوس معها، ويحيا معها الأمل، رحلة يستمتعون فيها بالمطر الذي يهطل في لحظة جود من الخالق، إنها رحلة ماتعة مع أغصان تعانق الرّيح، وطيور تغرِّد جذلى بأروع الأغنيات، يا لها من رحلة جميلة مع طبيعة فاتنة، رحلة بين صفاء مياه الأنهار، وعطر شذيٍّ من تناثر الأزهار! مروج خضراء على بساطها الأخضر انتشرت هاتيك الأبقار تمرح وترعى آمنةً مطمئنّةً، وما همّها شيء والمرعى خصب، والمورد عذب، قد أتاها رزقها رغدًا؛ فهي ناعمة البال، مطمئنّة القلب!، في طبيعة تتغيّر وتتبدّل، وتكسر حاجز الملل في النفوس!
والقطار - بالمناسبة - يعدّ مصدر إلهام للأدباء والشعراء والفلاسفة والكتّاب والفنّانين، الذين لا ينكرون بأيِّ حال من الأحوال فضل القطار عليهم خاصةً في تطوّرهم الأدبيِّ عبر التاريخ.. فهذا الفنان «سلفادور دالي» ولقد بلغ عشقه للقطار إلى الحدّ الذي أظهره لنا في الكثير من أعماله ولوحاته التشكيلية التي أثرى بها عالم الفنِّ. والأديب التشيكيّ المولد الألمانيُّ اللغة «فرانتس كافكا» والذي توفي عام 1927م كان قد ذكر مرارًا أنَّ العديد من قصصه ورواياته قد ولدت أفكارها لديه إما داخل القطار وإما بإيحاء منه، وذلك مثل مجموعته «سور الصين»!
لقيت الفكرة ترحيبًا كبيرًا من بعدما كتب عنها الصحفيُّ، وتسارعت الشّركات والجهات الحكومية والأفراد لدعمها، وتطوع عشرات الممرضين والممرضات للعمل في قطار السعادة، وقدم الناس مؤونة الرحلة من المأكل والمشرب، وقدّمت الشركات كل مستلزمات الرحلة للمشاركين، ولم تمض أسابيع حتى تهيأ القطار واكتمل العدد، وقد كان من المفترض أن يحضر الركاب في ضحى يوم المغادرة، فلم تشرق الشّمس إلا وقد اجتمعوا؛ من فرط حماسهم!
ركبوا القطار في أجواء جميلة.. فرقة تعزف، وجمهور يصفِّق، وورود تنثر، وهدايا تقدّم، ومسؤولون كبار يشجّعون، كان كرنفال فرح وأنس...دوَّت الصافرة فانطلق القطار.
توقّف القطار في محطّته الأولى، وإذا بجموع من الناس تستقبلهم بالهتافات والهدايا والورود، وفي المحطات التي يتوقفون فيها يحملون على الأكتاف في مشهد بهيج، حيث تقام لهم المآدب الفاخرة والحفلات الصاخبة، وتعرض لهم المسرحيات الكوميدية!
برنامج حافل بالزيارات والمناسبات؛ حيث الشواطئ والمتاحف والحدائق!
رحلة ينسون الهمَّ معها، وتتجدَّد علاقاتهم بالحياة يتعرّفون على بعض، يعيشون في هذا القطار كالأسرة الواحدة يشدُّون على أيدي بعضهم، يتقاسمون الهمَّ ويتشاركون الوجع، يغنُّون ويصفِّقون، استغراق تام في جمال اللحظة، واستثمار رائع لقوة (الآن!).
وفي نهاية الرحلة يعودون بمعنويات مرتفعة، ونفسيات متفائلة، بل ومنهم من كتب له الشفاء من شلل أو مرض، والبشر ينسون التفاصيل، ولكن لا ينسون الشُّعور، ونحن لا نتذكَّر الأيّام، بل نتذكَّر اللحظات!
وكانت بداية حياة جديدة!
وفي هذا الشأن، يقول حكيم: طلبت من الله كلَّ شيء لأستمتع بالحياة؛ فأعطاني الحياة لأستمتع بكلِّ شيء!
وكان من بين هؤلاء فتاة قد ابتليت بصدمة ما استطاعت بعدها الكلام، وكانت تقاتل خلال الرِّحلة لكي تنطق ولو حرفًا لتشارك رفاقها الحديث والضحك، وكان موجعًا أن تراها تصرُّ على أسنانها بمعاناة شديدة وتحرِّك شفتيها دون جدوى! ولكنّها في نهاية الرِّحلة، وبينما الممرِّضة تمسك بيدها؛ تمتمت وبصعوبة بالغة وقالت: شكرًا!
وكانت البداية؛ حيث استطاعت بعد عام أن تتكلّم بوضوح تامٍّ، ودون معاناة.. وهناك الكثير من الحالات التي كتب الله لها حالًا أفضل.
وصف الاكتئاب بأنَّه: فنُّ عدم فعل أيِّ شيء، ويصيب الإنسان شعور بأنَّ الحياة ميؤوس منها، ومن أنجع علاجاته التنقل والتغيير والذهاب لأماكن جديدة. عندما يزورك همٌّ لا تستسلم، وسح في أرض الله، غير مكانك وبدل جدرانك، وانطلق، قاوم التّعب والاكتئاب بالتأمل في السماء، وباستنشاق الهواء النقيِّ
و «سايروس» يقول: سرُّ دوام المتع تنوُّعها.
لا تنس والديك! خذهم في رحلة - إذا كنت تقدر - إلى إحدى الدول ذات الطبيعة.
وأنت أيها الصحيح المعافى، لماذا الضيق؟ لماذا تحمل الدنيا على رأسك؟
وأنت يا من يشعر بالملل ويصدّره لمن حوله، ألا تسعك نصيحة الأديب الألمانيِّ «نتشه»: ليست الحياة أقصر مائة مرة أن تصيب نفسك بالملل؟!
وقد نصح الأديب عبدالوهاب مطاوع صديقًا له أنهكه الاكتئاب:
يا صديقي، اخرج في الجوِّ العاصف، ولا تستسلم لتجهّم الجوِّ حولك.. ولا تسجن نفسك داخل جدران بيتك أيامًا طويلةً خوفًا من البرد والمطر؛ فلأن تشكو من لفحة برد، أرحم كثيرًا من أن يتسلّل اكتئاب الشّتاء فيملأ روحك بالحزن الغامض والشّجن.
ما أروع تلك الحكمة القائلة: «الحياة نهر متدفِّق, عليك أن تجاريه لتستمتع بمباهجه!»
انفض غبار الهمِّ والكسل والحزن، وعش متحرِّرًا من تلك الأثقال، من ذلك الجمود، وعش الحياة مستمتعًا بما تملك، دع قطارك يسير، واستمتع برحلة الحياة المبهجة ولا تمت قبل يومك.
شارك من حولك لحظات الفرح والمتع الصغيرة، شاركهم الضّحك، وقاسمهم الهمَّ، ستصل لمراتب عالية في سُلَّم السعادة.
يومًا ما قابل المحفِّز المشهور «روبين شارما» رجلًا غنيًّا جاوز السّبعين، يقول: وقبل أن نفترق أغمض عينيه وابتسم، سألته: ما الأمر؟
فأجاب بإجابة لم ينسها «شارما»: لاشيء مهمًّا، كلّ ما في الأمر أنّني أستمتع بالنّسمات الرقيقة، إنه شيء رائع!