د.قيس بن محمد المبارك
يتحدث بعض المعاصرين عن صراعٍ قديم بين الإنسان والمكوّنات التي تطوف مِن حوله، والتي يسمّونها الطبيعة، ويسمّونه صراعاً أَزلِيّاً، وإن كنت أستبعد أن يكونوا يقصدون حقيقة الأزل، ذلك أنّّّ الأزل في لغة العرب يعني استمرارَ أزمنةٍ غير متناهيةٍ في الماضي، أيّ ليس لها ابتداء، وهذا المعنى ليس من أوصاف المخلوق، ومن العجب أنْ يذكر بعضهم أن الإنسان تنقّّّل في صراعه هذا في أطوارٍ ومراحل مختلفة، تدرّج فيها الإنسانُ من طورٍ إلى آخر، وذكروا أنه بدأ بطور الخوف من الطبيعة، ومن مخاطرها التي تحتفّ به، وربما رافق هذا الخوف شيءٌ من التقديس لها، ثم انتقل بعد ذلك إلى طور التعرّف عليها، والوقوف على سبل الانتفاع بها، وصوّروا هذا الانتفاع بأنه ثمرةٌ للصراع معها، وربما عبّر بعضهم عن انتصار الإنسان في هذا الصراع بقوله: «الإنسان يمكن هزيمته، لكن لا يمكن قهره!» وزعَمَ بعضهم أن الطبيعة تمارس دور الجلاد للإنسان، وأنه رغم ذلك لم يقف مكتوف الأيدي أمام سطوتها وجبروتها، إذْ أنه استعمل الصبر والصمود، واهتدى بعد ذلك إلى معرفة قوانينها، وحلّّّ الكثير من ألغازها التي طالما حيّرَته، وهكذا تحول الصراع الإنساني مع الطبيعة من صراع من أجل البقاء إلى محاولة للهيمنة والسيطرة عليها، غير أن هذا التفكير سرعان ما يزول ويرتفع بأدنى تأمّل، وقد نبّهنا القرآن الكريم إلى أن العلاقة بين الإنسان وسائر المكوّنات إنما هي علاقةُ تذليلٍ وتسخير، علاقةٌ بين مسخّّّر ومسخّّّرٍ له، ولم تكن في يومٍ من الأيام علاقة صراع، إذْ لو كانت صراعاً لصَرَعَتْنا، وإنما هي علاقة إخضاع بالقهر، وبلا عِوَض، وإنك أيها القارئ الفهيم لو فتّّّشت بطون كتب اللغة العربية للوقوف على كلمة للدلالة على إخضاع شيءٍ لشيء، فإنك لن تجد أدقّ من كلمة التسخير والتذليل، فاعجبْ مِن تسخير الشمس والقمر، فتقلّبهما تطيب بسببه الزروع، وتنضج به الثمار والفواكه، ويُعرف حساب الشهور والسنين، وتتكون الفصول الأربعة من صيف وخريف وشتاء وربيع، وغيرها من المنافع التي لا تحصى، وبهما يتكون الليل والنهار، فيصير النهار معاشًا للخلق يتقلبون فيه، وبه يتعيشون، ويصير الليل سكنا لهم وراحةً، ومن ذلك تسخير السحاب والأمطار، وتسخير البقر، إذْ خلقها الله على كيفية يتيسّر بها حلبها، وكتسخير الرواحل من الإبل والخيل وغيرها، فخلقها على كيفية يتيسر بها ركوبها، وهي حقيقةٌ أدركها العربيّ حين سمّى الناقة بالّّّلول، تشهد بذلك أشعار العرب وتنطق به أخبارهم، واعجبْ للطفل الصغير كيف تَذلّ له الناقةُ، فيُبْعِدُ عنها صغيرَها، ليستَأْثر بلبنها دونها، ويَذِلّ له الجمل، فيضع على ظهره الهوْدَج، فهذا طَرَفَةُ بن العبد يصف ناقتَه وهو على ظهرها بأنها ذلولُ مِطْواعةٌ لراكبِه، تنقاد للمسافر عليها ليلاً أو نهاراً، فتجده يتغنّى بها وبالمنافع التي يحصلها منها، وهكذا ينتفع الخلائق بما أكنّه الله في الأرض وما حوْلَها مِن المكوّنات، مِن كنوز ينتفع العبادُ منها، فهي مخلوقةٌ مِن أجْله، شاءتْ هذه الأشياء أو أبتْ، فسبحان مَن جعلها سُخْرةً للإنسان، ولكلِّ الكائنات الحيّة عليها، فنثَرَ عليها لكلِّ مخلوقٍ رِزْقَه، وإذا كان أغلب العمومات في لغة العرب تقبل التخصيص، فإن قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابّّّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلّّّا عَلَى اللّّّهِ رِزْقُهَا} عامٌ لا خصوص له، وقد قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله رحمه الله: (وهذه الآية مُصرِّحةٌ بضمان الحقِّ -سبحانه- الرزقَ، وقطعَتْ ورودَ الهواجس والخواطر عن القلوب) قال بعضهم: (فواللّه ما اهتمَمْتُ برزقي منذ قرأتُها، فاسترحتُ) غير أن حكمة الله اقتضتْ أن يكون تحصيلُ الرزق مقترنا ببذل الأسباب، فمَن قصّر فلا يلومَنّ إلا نفسه، قيل:
(والمرْءُ تَلْقاهُ مِضْياعاً لفُرْصتِه
حتّّّى إذا فاتَ أمْرٌ عاتَبَ القدرا)
فبذْلُ يسيرِ الأسباب تأتي بالطّّّير مِن أعالي السماء، وقد أشار لهذا المعنى موسى بن نصير حين قَدِمَ -بعد فتح الأندلس- على سليمان بن عبدالملك، فقال له يزيدُ بن المهلّّّب: أنت أدْهى الناسِ وأعْلمُهم، فكيف طَرَحْتَ نفسَك في يَدِ سليمان؟ فقال موسى بن نصير: (إنّّّ الهدهد ينظر إلى الماء في الأرض على أَلْفِ قامَةٍ، ويُبصِرُ القريبَ منه والبعيدَ على بُعْدٍ في التّخوم، ثم يَنْصُبُ له الصّبيّ الفخّ بالدودة أو الحبّة، فلا يُبْصِرُهُ حتى يَقَعُ فيه) وإذا كان الله قد سخّر لنا مِن الكون طعاماً تتغذّّّى به أبدانُنا، فقد سخّّّر لنا منه معرفةً تتغذّّّى بها أرواحُنا، وهكذا اقتضت حكمة الله أن يفرش الأرض ويمهِّدها، ثم يأمرنا بعمارتها، فقال: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} فألهمهم عمارتها بغرسها بالأشجار والزروع، وببناء ما يحتاجونه من المساكن والضِّياع، والأحاديث التي تحضّ على حفظ ا لبيئة بالبناء وتحذِّر من تخريبها وهدْمها كثيرة، لا يتّسع هذا المقال لذكرها، فمنها هذا الحديث: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها) وحديث: (ما مِن مسلم يغرس غرساً، إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أَكل السّبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير، فهو له صدقة) فتحسين البيئة عملٌ مباح، بل هو مندوبٌ إليه ندباً أكيداً، أدرك ذلك المسلمون من العهد الأول، فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه، كان في آخر أيامه يعيش في الشام -رفع الله عنها البلاء- مرّّّ به رجلٌ وهو يغرس شجرةَ جَوْز، فقال له: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير؟ فقال أبو الدرداء: (ما عليّّّ أنْ يكون لي أجْرُها، ويأكل منها غيري) ثم إن الإسلام قد جعل إحياء الأرض بغرسها أو زراعتها أو غير ذلك من سُبُل الإحياء، باباً من أبواب الصدقة المفتوحة لمن أحياها، ثم جعل إحياءَها سبباً لتملّكها، وعدّّّ الفقهاءُ تدميرَ البيئة من الفساد في الأرض، ودلائل ذلك أكثر مِن أن تُحصى، قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلّّّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنّّّسْلَ وَاللّّّهُ لَا يُحِبّ الْفَسَادَ} والفساد معنىً يشمل كلّّّ ما فيه خرابٌ للمنافع الدينية أوالدنيوية، فالسعي في إهلاك الحرث والنسل كناية عن السعي في تعطيل ما تقتضيه حكمة الله مِن الخلق، وهذا منافٍ للفطرة، فإتلاف النفوس بقتلها، أوإلحاق الضرر بها هدم لما أراد الله بناءَه، وكذلك الأمر في قطع الأشجار وإتلاف الزروع والثمار، فإنه رفضٌ لما أنعم به علينا، ثم إن الفقهاء تكلّّّموا عن أهمِّيّة وضْع مجالٍ حيويٍّ لكلِّ شيء، ويسمّون هذا المجال «الحريم» ويقصدون به ما يحيط بالشيء مما يُحتاج إليه ليَحفظه، وليحصل الانتفاع به على أكمل وجهٍ وأتمّه، فجعلوا لكل شجرة حريماً بقدر مصلحة حفْظها ونَمائها، وقدّر بعضهم حريم النخلة باثنتي عشرة ذراعاً من نواحيها، وكذلك الآبار، فلبئر الزراعة حريم، ولبئر الماشية حريم، وللنهر حريم، وللطريق حريم، وللبيت حريم، وفيها تفصيلٌ مبسوط في كتب الفقه، ثم إنّّّ إماطة الأذى عن الطريق صدقةٌ، وقد سأل الصحابيّ الجليلُ أبو بَرزة رضي الله عنه عن عملٍ يَنتفع به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعزل الأذى عن طريق المسلمين). وتحدث الفقهاء عن أحكام قتل الهوامّ والحشرات، وفصّلوا الكلام فيها بما يفيد أنّّّ قتْلها اعتداءٌ عليها، فلا يجوز إلا إذا كانت تؤذي، وكذلك جعلوا باباً فصّلوا فيه أحكام الصيد، ونبّهوا إلى تحريم الصيد لمجرّد التسلية واللهو، وأجمع العلماء على التحذير من الإسراف في استعمال الماء، حتى في الوضوء، وصحّ أنّّّ امرأةً دخلتْ النار في هِرّة حبستْها، فلا هِيَ أطعمَتْها، ولا هي تركتْها تأكل مِن خَشَاش الأرض، وجاء أنّّّ الله غفر لِبَغيٍّ مِن بني إسرائيل، بسبب أنها سقَتْ كلباً، فجعل الإسلامُ في كل ذاتِ كبدٍ رطْبةٍ أجراً، فحفْظُ البيئة عندنا ليستْ توجيهات عامّّّة، وإنما هي أحكامٌ تكليفية، فإنّّّ مَن يقرأ في كتب الفقه يجدُ أنّّّ ما فيها من أحكامٍ متعلِّقة بالبيئة يتجاوز كلّّّ ما تتحدّث عنه الجامعات والمراكز البحثية عن البيئة، فلو التزم الناسُ بأحكام دين الفطرة وهو الإسلام، لَمَا رأينا هذا التلوّث الذي يحصل للأنهار والبحار، بسبب ما يُرمَى فيها من النِّفايات والمواد السّامّة، ولَمَا رأينا هذه الانبعاثات الغازيّة التي تزيد من ارتفاع درجة الحرارة، وتُفضي إلى الاحتباس الحراري، فرحم الله آباءنا حين التزموا الإسلام في حياتهم، فكانت مساجدُنا فيما مضى لا تهدر ماء الوضوء، وإنما تجعله سقايةً لحديقة المسجد، فلا يكاد يخلوا مسجدٌ مِن حديقة بجواره، وتجدها غايةً في جودة النباتات وحسن التنظيم، وكانت مدن المسلمين ملآى بالحدائق الغنّّّاء، ومن أشهرها بستان هشام بدمشق، وجَنّة العَرِيف بغرناطة، وحدائق جنان البيل في فاس، والتي تحوي مِن أنواع الأزهار والأشجار ما يزيد على ألف نوع.
** **
- أستاذ تعليم «عالي»