د.محمد بن عبدالرحمن البشر
نقل لنا صاحب كتاب وصف إفريقيا سبب تسمية القيصريات بهذا الاسم، وربما يكون مصيباً فيما دعاه إلى سبب التسمية، أو أن هناك سبباً، أو أسباباً أخرى. والقيصريات في العصور الماضية، وفي عصرنا هذا كما نعلم أسواق على هيئة أزقة تفتح الدكاكين على جانبي الزقاق، ليسير المشترون أو الزوار في منتصف الطريق وينظر المشتري إلى أحد الجانبين تارة، وإلى الجانب الآخر تارة أخرى لعله يجد مبتغاه، وغالباً فإن البضائع التي تعرض في تلك القيصريات لا تكون ذات رائحة كريهة وإنما تباع الأقمشة، والعطور، وأدوات الزينة والحلي وغيرها. يذكر ليون الإفريقي في عام 920م أن اسم القيصرية قديم، وأنه مشتق من قيصر أكبر ملوك وقياصرة عصره بأوروبا، فالسواحل الواقعة في غرب إفريقيا، وجنوب أوربا مثل المغرب وموريتانيا والسنغال، كانت واقعة تحت سلطة الرومان، ومن بعدها القوط، ومعظم هذه السواحل مدن عامرة تنتشر فيها مثل هذه الأسواق بهذه المسميات، وفي الغالب فإنها مزدهرة، وعامرة بأنواع البضائع التي يتبادل فيها التجار البضائع، ويحصل فيها المشترون على حوائجهم، وجميعها أيضاً عرضة للهجوم من الأعداء المحليين، أو الغازين من مناطق أخرى تشترك معهم في المعتقد أو تخالفهم فيه، وربما يكون الاقتتال بين أبناء القبيلة الحاكمة الواحدة، أو فريقين لأبناء أسر حاكمة، كما هي الحال لدى المرينيين والوطاسيين والسعديين في المغرب مثلاً، ولا شك أن مثل هذه الأسواق تكون مقصد بعض الجند للسلب والنهب.
وفي أوقات السلم، كان لدى الموظفين الرومانيين والقوط، فنادق ومخازن مبعثرة هنا وهناك في المدينة، يجمعون فيها ما يجنونه من المدينة من ضريبة وأتاوات، وغالباً ما يلجأ بعض السكان إلى نهب بعض المستودعات، ومن الصعب وضع حراسة كافية حول كل فندق أو مستودع، لهذا فكر أحد القياصرة أن يجمع كل ذلك في شبه مدينة صغيرة داخل المدينة الكبيرة، على أن يجتمع فيها تجار المدينة المتميزون والـثقات على أن يقوموا بتخزين بضائعهم وبيعها في هذه المدينة الصغيرة، وفي ذات الوقت يقوم جامعو البضائع، وغيرهم من أعوان الحاكم الذين يساعدونه في جمع الأموال بتخزين ما لديهم في هذا السوق الذي تشبه المدينة الصغيرة.
وبهذا فإن التجار المتميزون، سيذودون عن أموالهم وبضائعهم من السُرَاق، والجماعات التي لا ترتدع عن السلب والنهب، كما أنهم في ذات الوقت سيقومون بحماية أموال الضرائب وغيرها، وهم أعلم بأحوال البلاد وأهلها، ومن العسير عليهم أن يغضوا الطرف عن النهب دون أن يلحق ببضائعهم وأموالهم مضرة.
لقد استشهد ليون الإفريقي بما شاهده في إيطاليا، حيث كان الجنود الذين يحاربون لمصلحة فريق يبدأون بنهب أموال الخصم عندما يدخلون المدينة، ثم ينهبون ما لدى أعوانهم عندما لا يكفيهم ما حصلوا عليه من الخصوم.
هذا ما قاله ليون الإفريقي، لكن ما نعرفه أن اسم قيصرية كان منذ القدم موجودا في المشرق العربي ويطلق على الأسواق المماثلة لها في المغرب، لهذا فإن الاسم ربما انتقل من المشرق إلى المغرب، وقد يكون قديماً جداً، وربما يكون سبب التسمية هو ذاته الذي ذكره ليون الإفريقي، لكن في ذلك الزمن الذين كان فيه الرومان وقياصرتهم يحكمون جزءا كبيرا من المشرق العربي، كما هو الحال في جزء آخر من المغرب العربي، وقد يكون هذا الأسلوب مطبق في الإمبراطورية الرومانية وسائد فيها، ثم نقله العرب إلى أسواقهم، وأطلقوا عليه هذا الاسم.
السوبر ماركت في عصرنا الحاضر، هو قيصرية لكن على نمط حديث مميز، ففي العادة فإن القيصريات تكون مسقوفة الممرات، وذات مداخل محدودة، حتى يمكن التعرف على الزائرين لها سواء لأصحاب الحاجة أو الفرجة، وربما وفي زمن غير بعيد، نرى تلاشي الأسواق جميعها بفضل التجارة الإلكترونية، وخدمات التوصيل التي بدأت، وأخذت في التطور، وليس ببعيد أن تحمل تلك الأجهزة الحديثة ما تم طلبه، ليصل إلى المنزل بسهولة ويسر، لاسيما أنه قد تم إحراز تقدم كبير في هذا المجال. ولم يبق سوى وضع القوانين في العالم والترتيبات اللازمة.