محسن علي السهيمي
تتأمل حالَ بعضِ الدول ذات التفوق العسكري أو الاقتصادي أو التقني، فتجدها لم تُشغِل أنفسَها بالتكتلات مع دول أخرى يجمعها معها المعتقد أو اللغة أو الجوار. في المقابل تنظر لدولٍ كدول العالم الإسلامي ودول العالم العربي، فتجدها في حالةِ سباقٍ نحو التكتلات الجماعية فيما بينها، مؤمِّلةً من ورائها القوةَ والبقاء. لعل بزوغ التكتلات الدولية بدأ في أعقابِ الحرب الكونية الثانية وبدايةِ ما يُعرف بالحرب الباردة، وعلى ضوء ذلك تَشكل المعسكران الشرقي (حلف وارسو) والغربي (حلف الناتو)، وهو ما صنع نموذجًا أغرى الآخرِين باستنساخه وتكراره. ومع هذا فقد تفكك حلف وارسو مطلع التسعينيات في أعقاب انهيار زعيمه (الاتحاد السوفيتي)، وربما يلحق به (الناتو). نعود لصُلب حديثنا الذي يستهدف ثلاثةَ تكتُّلات: التكتل الأول، هو تكتل الدول الإسلامية -بوصف الدين الإسلامي هو الرابط بين هذه الدول- ومظلته هي (منظمة التعاون الإسلامي). التكتل الثاني، وهو تكتل الدول العربية -بوصف اللغة العربية هي الرابط بين هذه الدول- ومظلته هي (جامعة الدول العربية). التكتل الثالث، يتمثل في (المجالس والاتحادات) الإقليمية المصغرة بين بعض الدول العربية كمجلس التعاون الخليجي، واتحاد المغرب العربي، ومجلس التعاون العربي. بغض النظر عن أهداف هذه التكتلات، وما بقي منها وما انحلَّ، فإن الذي يعنينا هو أن بعض الدول الإسلامية والعربية أطَّرت أنفسها بدوائر تمثلت في تلك التكتلات الثلاثة؛ الدائرة الكبرى (الإسلامية) والدائرة الوسطى (العربية) والدائرة الصغرى (الإقليمية)، وأصبحت هذه الدوائر بمثابة قيود وعوائق لبعض تلك الدول، أو لنقل إن تلك الدول شُغلت بهاجس الأخوَّة ووحدة الكلمة والصف، والثبات على المبدأ، وأُشغِلت بتصحيح مسار الناشز، وتقويم المعوج، واحتواء الغرِّ، وذهبت أيامها وأموالها في حلحلة بعض القضايا كقضايا التصالح، وإعادة الإعمار، والتنمية لبعض الدول الأعضاء، وغيرها من القضايا التي أصبحت عبئًا يُضاف للأعباء الداخلية التي ينوء به كاهل تلك الدول خاصةً (الناضجة) منها. لا أتحدث هنا عن العلاقات الطبيعية بين دولة وأخرى فهي حاصلة بشكل أو بآخر، ولكن عن (حتمية التطابق الجَماعية الإلزامية في السياسات والأهداف والتوجهات والغضب والرضا.. إلخ) تجاه أي قضية أو حدث، وهو ما تُشدد عليه أدبيات تلك الدوائر الثلاث، حيث إن الإخلال بها مدعاة للنزاعات والخلافات، معن تحقيق هذه الحتمية أمر في غاية الصعوبة، بل ربما أدى إلى الفرقة أكثر من الوحدة؛ لأن كل دولة ترى نفسها رأسًا، ولها سياساتها المستقلة، مهما تقاصر حجم تأثيرها ومكانتها. ولذا لا أرى حلًّا إلا بالتخفف من هذه التكتلات، بحيث تلتفت كل دولة لنفسها، وتشتغل على النهوض بشعبها، وتأخذ حريتها في توجهاتها وما تُحب وما تكره، كي تصبح لها كلمتها وهيبتها في المجتمع الدولي، بدلاً من الاشتغال بهذه الأُخوَّة والتكتلات (الشكلية الهشة) التي أدَّت إلى استنزاف قدراتها، ولم تثمر إلا الأوهام، ولنا في دول عديدة رائدة لم ترتهن للتكتلات كروسيا والصين والهند واليابان وكويا الجنوبية أمثلة حية، وهاهي بريطانيا خرجت من (الاتحاد الأوروبي) ولم تأكلها الذئاب عندما أصبحت قاصية؛ وما ذاك إلا لكونها التفتت لنفسها منذ أمد فأصبحت ذات سيادة ومَنَعة، ولم تعد هذه التكتلات تمثل لها أهمية أو قيمة كبيرة. هذه الدوائر تظل أعباؤها -خاصة على الدول الناضجة- أكبر من نفعها، فهي تستنفد جهدها، وتجعلها كمن يحرث في البحر، وتشغلها بلزوم مالا يلزم، على حساب تنميتها الداخلية، خصوصًا وقد أثبتت المواقف العديدة ألا كبير فائدة ترجى من تلك التكتلات، خصوصًا إذا ما عرفنا أن بعضها (الجامعة العربية مثالاً) قامت لا برغبة عربية ذاتية وإنما بتحريض بريطاني! فليت الدول الإسلامية والعربية تفكر خارج هذه الدوائر الثلاث، وتبدأ في سباق التنمية والريادة (الفردية) الذي يحقق لها طموحاتها بدلاً من الارتهان والاشتغال بـ(التكتلاتية الشكلية) التي عطلت مسيرتها، وأخَّرت تنميتها، وكانت قيودًا تحول بينها وبين التفرد والإبداع.