د.ثريا العريض
يعود معرض الكتاب إلى المدن السعودية بثراء وأريحية كانت مفتقدة حتى وقت قريب. ويأتي في إطار الحقبة الحالية الإيجابية التحولات، التي أشرعت أبواب الحياة اليومية لمتعة تذوّق الفن والإبداع ورفعت الحظر عن الكثير مما كان محظوراً من النشاطات سابقاً لمجرد ترسيخ التسلط على حرية التصرّف.. ومع الزمن سيصل التحول إلى تحقيق التقبل والاعتياد من كل الفئات, خاصة فئة الشباب الذين لم يعرفوا قبل إلا القيود حتى تقبلوا التحجر على أنه الوضع الأصوب والأسلم.
مساءلات الفن وتحريمه والفكر وتجريمه توقفنا عند سؤال جوهري عويص؛ هل نحاسب على الفعل؟ أم على القصد منه؟ أم على فهمنا له؟ وقد يكون فهماً قاصراً فهل يحاسب الجاهل من هو أعلم منه؟ ومن في الخيار النهائي في زمنٍ ما يحكم من منهما الأعلم؟
ثم لماذا نرفض الإبداع المختلف؟ هل هي إشكالية الخوف من الجديد؟ أم رغبة احتكار التأثير في السائد الاجتماعي؟ لا بد من ريادة يأتي بها أولاً الفكر المبدع المستجد قبل أن تصبح السائد المقبول ... وإذا كان الفكر المجدّد يهدّد السائد ويعرض الممارسات والمعتقدات القائمة في أي عصرٍ وزمن ومكان للتساؤل والإلغاء, هل نحاسب المبدع على الفعل أم على النيَّة؟ ثم من هو القادر أن يحكم بالصح أو بالخطأ وبراءة النتائج, على ما هو جديد, وبالتالي غير داخل في معادلات الصح والخطأ السائدة.
هل كان سقراط مجرماً فعلاً يستحق السم كما حكم عليه لأنه حض على التفكير المنطقي المسائل لمعتقدات عصره?
هل كان جاليليو مخطئاً حين أعلن مكتشفاته العلمية أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس؟ لقد أعلن وقتها حقيقة علمية معاكسة للمعتقد السائد كنسياً ومجتمعياً, وعُوقب بالسجن والتعذيب وحرق مؤلفاته وهدّد بالإعدام إن لم يعلن الارتداد عنها. وها نحن اليوم نطبّقها في رحلات استكشاف الفضاء ونسبح بحمد الله وعظمته!
وفي الأدب والفن نقف أمام مواقف وأسئلة مشابهة. هل كان أي من جوستاف فلوبير, أو دي أتش لورنس, أو بودلير, أو نجيب محفوظ مثلاً يسعى إلى تلويث أذهان أبناء جيله ومجتمعه, حين كتب الأول «مدام بوفاري», والثاني «عشيق الليدي تشاترلي» والثالث «أزهار الشر», والرابع «الثلاثية», ورسم فيها كل منهم صورة انفعالات بشرية بعيدة عن مثاليات عصره؟ لم يعد ما كتبوه يمثّل اليوم تطرفاً أدبياً وانفلاتاً منحلاً أمام ما تفيض به المطابع من صراحة في معالجة الجنس.. مثلما لا يبدو مايكل آنجلو أو رينوار اللذان تفننا في رسم الجسد البشري الإنساني بكل تفاصيله مرتكبين خطيئة تقصّد الإثارة. أمام سيل الأفلام المباشرة في إثارتها الجنسية المتعمدة الإيحاءات والتصريحات في استعراضات بورنوجرافية ليس الفن هدفها الأول. هل الإبداع الفني محرم أو مكروه في حد ذاته؟ أو لأنه يحمل احتمالية تلوث التفسير والاستخدام؟ وكيف يبدع الإنسان؟ لا يمكن الإبداع الفني بأي صيغة جاء من دون الموهبة.. والموهبة في الأصل مشتقة من مفردة «وهب».. والواهب للموهبة هو الله والموهوب هو الإنسان, فهل يحق أن يحظر إظهار الموهبة وهي هبة الله؟ والمواهب متعدِّدة بتعدد إمكانات قدرة الإنسان جسداً وفكراً.
هل موهبة الفكر أو الفن ما نحاسب عليه؟ إنما نحاسب على إساءة استخدام النعم التي وهبها الله لنا وقد استخدم الإنسان البدائي الفن لغة تقرّب من الخالق, فكيف أمسينا نرى الإبداع شراً والفن يلهينا عن محاورة القدرة الإلهية والتفكير فيها؟ إنما هو الحكم على النوايا التي لا يعلمها إلا الله.