د. جاسر الحربش
من شعر المتنبي: ولم أر في عيوب الناس شيئاً - كنقص القادرين على التمام.
مقارنة بسيطة لتوضيح المعنى. طفل مسيحي يصطحبه والده لحضور قداس الأحد في الكنيسة، وطفل آخر يصطحبه والده إلى المسجد لصلاة الجمعة. الطفل المسيحي سوف يشاهد الطريقة التي يدخل بها المصلون إلى قاعة الكنسية والاصطفاف المنظم والإنصات الكامل لموعظة الكاهن والهدوء التام في أداء الطقوس، وأخيراً الطريقة التي يغادر بها المصلون دار عبادتهم. أترك الانطباع الذي يخرج به الطفل المسيحي عن كنيسته وديانته لخيال القارئ.
على الطرف الآخر، الطفل المسلم سوف يلاحظ أولاً فوضى السيارات المركونة عشوائياً أمام أبواب المسجد، ثم أكوام الأحذية المقلوبة والمبعثرة، وبعد ذلك معركة تدافع القادمين على الأسبقية بالدخول واختراق الصفوف لاحتلال الفراغات المتروكة على امتداد ساحة المسجد ولا أحد يدري لماذا تركت. ثم يسمع طفلنا النبرة المرتفعة التي يؤدي بها الإمام خطبة الجمعة. المنظر المهيب الوحيد الذي يبقى في ذاكرة طفلنا المسلم هو الصلاة نفسها، لأنها تتم وفق نظام لا يستطيع المصلون الخروج الفوضوي عليه، ولو أنه قد يشاهد ويسمع ما يخل بهذا النظام من الحركات والأصوات. في النهاية وبعد أداء الصلاة سوف يصاب طفلنا بالرعب من اندفاع الناس وتزاحمهم على الخروج وكأنهم يريدون الهروب من المكان الذي كانوا قبل دقائق يتعبدون فيه. أترك الانطباع الذي يخرج به هذا الطفل عن مسجده لخيال القارئ كذلك.
التفاني في الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الكمال في أداء الطقس الكنسي مقابل الفوضى العشوائية في التعامل مع آداب الصلاة وقداسة المسجد نمطان يوضحان الفارق بين مفاهيم الإتقان مقابل الفوضى والاكتفاء بأداء الواجب فقط على وجه السرعة. لم أضرب المثل بالمشهد في الكنيسة والمسجد للمقارنة الدينية، وإنما لتوضيح الفرق بين أداءين في دور العبادة، ومن لا يهتم بالكمال في أماكنه وأعماله التعبدية لن يهتم بالكمال في أي مكان أو عمل آخر. عقلية الاكتفاء بالأقل من الواجب أداءه مقابل التفاني في الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الإتقان، ذلك هو المؤشر الصادق على الاستعداد الذهني والعاطفي لانتقال أي مجتمع من التخلف إلى التحديث.
الصينيون في دولتهم الحالية يدهشون العالم بحرصهم وقدراتهم على بلوغ أقصى درجات الكمال في طوابير المدارس الصباحية وصفوف الأداءات الاحتفالية العسكرية والمدنية، فنرى عشرة آلاف شخص في الطابور يرفعون عشرة آلاف يد يمنى ثم عشرة آلاف يد يسرى في نفس اللحظة، وتخطوا عشرين ألف قدم بإيقاع وبدقة ساعة سويسرية. نفس التعلق بالنظام المتقن يطبقه الصينيون في عمليات التحديث والبناء، والنتائج هي ما يراه ويسمعه العالم كل يوم. اليابان وكوريا سبقتا الصين في التفاني للوصول إلى الكمال فتحققت لهما بذلك القفزة الهائلة من تخلف الجوار الآسيوي إلى الحداثة الغربية. المغزى في المقال: مجتمعنا يتعامل في أغلب ممارساته وأعماله اليومية، بما في ذلك التعليم والصحة والإدارة والمرور وحتى العبادات بعقلية الاكتفاء بالحد الأدنى المتوجب لأكل العيش ولا شيء فوق ذلك.