د. خيرية السقاف
يقتات منا الفقد أعمق ذراتنا، يحيلها بحمم ناره ليس لرماد، بل لفتائل من الضجيج
تصك بحريقها مسامنا، وتعيث فينا لهيبًا، وألمًا، وحزنًا..
تتحول بواطننا كالهشيم فلا نقوى، ولا نقوم..
حتى إذا ما أنزل علينا من سمائه بردًا، ومسح برحمته على مكامننا استسلامًا،
أيقظ فينا شعلة اليقين فنبصر، ونخرج خفافًا من دائرة البركان ننطوي على أحزاننا، ونجترها بصمت..
الفقد بركان لا نقواه حين يلحق بفلذاتنا، أو بأقرب من يمتد فينا عروقًا، ونمتد بدمائه حياةً..
لكنه القدر..
وإنه الأجل الذي نعلم لا يتأخر، ونحن لا نعترض..
فحزننا بشري محض، وصبرنا يقين محض..
ونحن بين محضين يهزمنا تارة ضعفنا، وتقتات في خبايانا فواجعنا..
البارحة غاليتي «موضي بنت خالد بن عبدالعزيز» كنتُ أراكِ بكل جارحة فيك، وأنت في هذا الحزن بفجيعتك التي تصطلي، بأمومتك التي تنوح، بصبرك المنتصر، بيقينك المنهمر،
بأنتِ يا سيدة العمل، والأمل، والقلب الكبير، والروح الراقية، والهدوء المُلهِم بين الفقد فجيعةً، واليقين رضاً، احتويتُكِ بفيض الذي تدرين من المحبة لكِ..
البارحة غادرتك لفردوسه الأعلى فلذتك الغالية «البندري»، ومن ذا الذي لا يعرفها؟!
كتلة الإنسانية، ومرجعها الخصيب..
ثمرتك التي بذرتِها، ورعيتِها، ونشَّأتِها، وكنتِ لها البوصلة، والمصباح، ورفيقة الطريق، في نشأتها رأيتك الأم اليقظة لا تهفُّ نسائم حركتها في اتجاه إلا نافذة قلبك، وعينك، وعقلك مشرعة نحوها برأفة الصحبة، وخفقة القدوة..
في سفرها للدراسة أدري كنتِ الدائمة في الحضور حتى استوت وارفةً، نائفةً، مثمرةً، معطاءةً في سبل الخير، والتطوع، والبناء المجتمعي، والتكافل الإنساني، وأنت تباركينها بشمسك، وبشذاك، تملئين ما حولها مساحة الرؤية، بسطور الخبرة، وحروف الصدق، وصوت العقل، وخفق الفؤاد..
أعلم أنك اليوم تبكين حزن فراقها، وهي لن تغيب عنكِ، وكل شيء لن يقوى على حبكِ، وشغفكِ، ومخيلتك، مذ كانت في أحشائك..
لكنك بكل قطرة حبر من عينيك، بصمود صبرك، بفطرة إيمانك، بعميق رضائك، بمكين يقينك سوف تسطرين ما سيضاف إلى سجلك الحافل الذي شهدنا حروفه، وقرأنا كلماته، وبصمنا على نموذجيته في الإنسانية، والمواطَنة، والمثالية، قوية بهذا القلب المؤمن..
أعلم أن حروفي لن تفي، وأن مواساتي قطرة في بحر مواساة من حولك، ومن تعرفين، ومن يحبونكِ، ومن هم قربى..
لكنه دمعي الذي مع دمعك، وخفقي الذي يحدب على خفقكِ، وحضوري الذي يندس بين جموع حضوركِ،..
رحم الله فقيدتكِ فقيدتنا، رحم الله «البندري» ابنتنا البهية التي لن أنسى شغفها بالعلم، وزهوها بطموحها، وحرصها على الاكتساب، وخطوها في مضمار أنتِ القدوة لها فيه، والمثل حتى نثرت شذاها، وعطرت ذكراها..
أسأل الله تعالى أن يجعلها لكِ عملاً صالحاً، ولوالدها رحمه الله، ولكل أحبتها وفلذاتها،
وأن يرزقها الفردوس الأعلى، ويطيَّب مرقدها، ويعطره برحمته التي وسعت كل شيء..
أجل، عزائي لكِ غاليتي «موضي بنت خالد»..
عزائي لجميع أفراد أسرتك الكريمة، وأسرتها العزيزة، ولمجتمع عملها، ولصديقاتها..
فالفقد كبير بلى كبير..
لكننا لله، وإنا إليه راجعون.