د.عبدالله مناع
فقد (الوطن) يوم الثلاثاء - ما قبل الماضي - نجماً من أسطع نجومه، هو المهندس المعماري، والمخطط المدني، وفنان التجميل: الدكتور محمد سعيد فارسي، الذي اختاره ولي العهد - آنذاك - الأمير فهد بن عبد العزيز.. بـ(خبرته) عام 1387هـ لـ(رئاسة) بلدية جدة.. ثم دعمَّه ملكاً.. دعماً بغير حدود، لينجز في النهاية هذه المدينة الجميلة «جدة».. بشوارعها الطويلة المبهرة، وميادينها الفسيحة الأخاذة وجدارياتها ومجسماتها الفريدة، و»نافورتها» الأعلى بين نوافير مدن العالم أجمع، التي أخذت تختال بها على بقية مدن سواحل البحر الأحمر، لتصبح «عروسه» دون منازع.. لتبكي رحيله تلك (المدن) الثلاث الأول في حياته: «مكة» مسقط رأسه، و»الإسكندرية».. جامعة تأهيله، و»جدة».. مدينة إنجازاته، ويبكيه معها.. كل أبناء (الوطن) الذين سعدوا بـ(إنجازاته)، وأعطوها حقها من العرفان والتقدير.. فلم تكن «جدة» البحر والجمال لـ(أهلها) وحدهم - الذين كانوا يعيشون داخل سورها أو منطقتها المأهولة.. ولكنها كانت لـ(كل) أبناء الوطن...!!
***
أما قصتي معه وعنه.. والتي أكتبها الآن بين الدمعة والأخرى، فقد بدأت منذ أكثر من خمسين عاماً.. عندما التقيته أول مرة في نادي الطلبة السعوديين المبتعثين لـ(جامعة الإسكندرية): (طالباً) سبقني بابتعاثه لدراسة (العمارة والتخطيط) في جامعتها.. لألحق به طالباً مبتعثًا لدراسة (طب الأسنان) في جامعتها، فتلتقي روحانا وفقاً لذلك القول المأثور: (الأرواح جنود مجندة.. ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف)!! لتظهر أولى مراحل (الانسجام) الكامل في علاقتنا.. عند ما قام بـ(تصميم) ترويسة صحيفة الحائط التي أتفق ثلاثتنا - البدر والخوجة وكاتب هذه السطور - على إصدارها باسم (الحقيقة).. أمام صحيفة (النور) الحائطية التي سبقتها!
لتظهر أولى مظاهر «الفنان» فيه من خلال «بوهيميته» الطارئة في «الإسكندرية»، وربما نتيجة لذلك (التباين) المكاني والجغرافي الذي عرفته حياته بين: مكة بروحانيتها، والإسكندرية بانفتاحها، وجدة بأحلامها.. لتؤكد نفسها بعد التخرج وعودتنا جميعاً إلى أرض الوطن.. لنجد أنفسنا أمام «فنان» عاشق للفن والرسم والنحت.. بصورة مذهلة، فاقت كل تقريراتنا!!
ورغم أننا سعدنا بـ(تعيينه) رئيساً لبلدية جدة.. إلا أننا صُدمنا - بداية - بتوجهه إلى خارج منطقة جدة المأهولة بين شارعي: فلسطين شمالاً، وشارع الملك خالد جنوباً.. إلى تلك الأراضي البيضاء الشاسعة في شمالها وشرقها.. ليخطط لشوارع لا يسكنها أحد.. ولميادين لا يمر بها إنسان!! فكان أن سألته وقد كنت إلى جواره في عربته التي كانت وكأنها مكتبه: لمن هذه الشوارع والميادين في هذا القفر؟! فكانت إجابته.. إنه يسابق بوضع يد «البلدية» عليها.. تجار الأراضي وسماسرتها والطامعين فيها بـ(المنح) أو (التملك) أو حتى بادعاء (إحيائها).. لـ(مستقبل) جدة التي لن تقف عند حدودها المأهولة حالياً! فقد كان يحلم بـ(جدة كبرى).. تتسع لسبعة ملايين مواطن ومقيم وزائر!
لتظهر تلك الأراضي البيضاء الشاسعة بعد عدد قليل من السنين، وقد أصبحت هي أحياء جدة (الجديدة): في (الحمراء) والروضة ومشرفة والعزيزية والبوادي والصفا والنعيم والسلامة.. لتصبح مساحات هذه الأحياء الجديدة.. أضعاف مساحة جدة المأهولة بين شارعي: فلسطين.. شمالاً، والملك خالد.. جنوباً!! ليقول لي مزهواً: عندما يتكامل بناء هذه الأحياء.. سترى «جدة» التي تحبها ونتمناها، دون أن ينسى حبه الإيماني المتجذر في أعماقه لـ(المساجد)، ليبني أجملها بتمويل القادرين من أبناء الوطن، وتحت إشرافه.. ليظهر مسجد (العناني) بـ(قبته) الهائلة التي تغطي مساحته الداخلية.. أمام قصر الحمراء، ومسجد الملك سعود.. في الشرفية، و(العزيزية) في حي البغدادية، ومسجد (التقوى) لـ(اللامي) في حي الروضة، فأصغر وأجمل مسجدين لـ(بن لادن): أولهما على طريق الملك، وثانيهما: على ربوة عند أطراف الشاطئ غرب ميدان التوحيد، فأغرب تلك المساجد معماريًا: مسجد حسن فارسي في جنوب حي (الرويس).. الذي بُني بكامله من الطوب الآجوري الأحمر المرصوص دون (لياسة) أو دهان خارجي.. فأعظمهم عمارة: مسجد السيدة فاطمة كامل.. في نهاية كورنيش جدة الشمالي.. وعلى مياه البحر مباشرة...!!
***
لقد عاد بعد تأمين تلك الأراضي الشاسعة البيضاء لـ(جدة) ومستقبل توسعاتها.. إلى جدة المأهولة، وإلى الجزء الجنوبي منها، الذي عُرف فيما بعد بـ(جدة التاريخية).. ليبدأ العناية بها وبـ(رواشينها) ونوافذها.. وشوارعها الصغيرة و(أزقتها) وبرحاتها الكبيرة.. ليغطيها بأجود أنواع الرخام وتشكيلاته.. وهو يضع على جوانبها فوانيس كهربائية تراثية.. تذكر أهالي جدة وسكانها المعمرين بـ(اتاريك الأصفهاني) و(اتاريك الماس خميس)!!
ليترك بعد ذلك (جدة التاريخية) في يدي مهندسين معماريين عاشقين لها - من تلاميذ مدرسته - هما: المهندس سعود القفيدي.. والمهندس خالد النهدي..
***
ليتفرغ بعد ذلك لـ(مهمة) تجميل جدة.. (كلها): ما كان منها.. في حاراتها الأربع الشهيرة (الشام والمظلوم واليمن والبحر)، وما كان منها.. في جدة المأهولة بين شارعي فلسطين والملك خالد، وماجد عليها من تلك المساحات الشاسعة البيضاء التي أخذت تتحول تباعاً إلى أحياء في شمال المدينة وشرقها.. ليجد نفسه في «حرج» من أمره: فـ(التجميل) الذي عرفه وشاهده في كل من القاهرة والإسكندرية كان يعتمد على إقامة (التماثيل) الشخصية للزعامات والقيادات وكبار الساسة والفنانين.. وهو أمر يرفضه إيمانه المتجذر في أعماقه، ليسأل نفسه: كيف يمكن أن نقيم تجميلاً في الشوارع والميادين.. دون الوقوع في شبهة (التجسيد) للأحياء.. المنهي عنه دينياً؟
ليأخذه البحث طويلاً.. عند المشايخ والفقهاء وفلاسفة الإسلام بحثاً: عن إجابات تريح قلقه وتنزع عنه ريبته، ليجد بعضها عند الفيلسوف (أبو حيان التوحيدي) في بحثه عن (أسباب استحسان الصورة الحسنة)؟ وهل هي من (آثار الطبيعة)؟ أم هي (من عوارض النفس وإسهام الروح)؟ ويجد بعضها الآخر عند الفقيه (ابن مسكوبيه) في بحثه عن (التذوق الجمالي عند العرب) بـ(إنه حالة تعبر عن تأثر النفس برؤية الصورة الحسنة)، وليجد أهمها عند فقيه الإسلام الشيخ محمد عبده شيخ الأزهر في: القرن التاسع عشر.. عندما قال: إن (الرسم ضرب من الشعر الذي يُرى ولا يُسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يُسمع ولا يُري)!! لتلهمه تلك اللقاءات والقراءات.. بـ(فكرة) التجميل بـ(الرموز والمعاني) ودلالاتها: فـ(الآيات القرآنية).. هي (الإيمان)، و(القلب).. هو العاطفة، و(الزهور) هي الحب، و(النخلة) هي الخير، و(الأهلة هي الاستبشار)، و(الكتاب.. هو الثقافة)، و(القلم.. هو الفكر).. لينطلق بفكرة الرموز والمعاني ودلالاتها هذه في طول مدينة جدة وعرضها وعلى كورنيشها.. ليقيم ثلاثمائة وخمسة وعشرين مجسماً جمالياً من إنتاج خمسة وخمسين فناناً محلياً وعربياً وعالمياً.. كان أبرزهم: «هنري مور» البريطاني بمجسمه (العصفوران)، و(سيزار) الفرنسي بمجسمه «القبضة»، و(جيوفاني) الإيطالي بمجسمه (الطيور المهاجرة)، و(هو لمان).. الألماني بمجسمة الأضخم والأجمل: (الفلك)، ثم أتبعها بإقامة (متحف) للفن في الهواء الطلق على شاطئ كورنيش (الحمراء).. لبقية أعمال أولئك الفنانين ليستمتع أهالي جدة وسكانها وزوارها بـ(الفن) والجمال.. حتى لا يكون الاستمتاع بهما وقفاً على القادرين وحدهم!!
لتصبح «جدة» ليست عروس البحر الأحمر فقط.. بل ومدينة (الفن والجمال) فيه.
***
لقد كان نجاحه (تجميلياً) كنجاحه (معمارياً).. كنجاحه (تخطيطياً).. (حقيقة) أبرزت له محبو (النجاح) وأعدائه.. ليفاجئ الجميع بـ(استقالته).. إلا أن الملك فهد - رحمه الله - الذي تبناه ودعمه.. رفض الاستقالة، واكتفى بإحالته إلى (التقاعد) بناء على طلبه، ليتنقل - في تقاعده - بين المدينتين اللتين أحبهما - بعد مكة -: جدة والإسكندرية، ثم ليستقر به المقام عند (حفيديه): سعيد وهيثم.. في مدينة لندن، لأراه مجدداً.. لنقرأ ونتذكر معًا قصة أيام صداقتنا الطويلة وما كان فيها.. ليودعني في ختام ثانيتها قائلاً: أراك قريباً.. إن شاء الله.
ولم أره بعدها.. ليأتيني خبر وفاته، فاستقبله بالدموع، ليقول لي صوت في داخلي: إن نهراً من الدموع لا يكفيك لوداعه!
رحم الله الدكتور محمد سعيد فارسي.. فلم يبق لنا غير الدعاء له والبكاء على رحيله.