د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
كل عام يكون للكتاب معرض ومفتتح دولي كبير على أرض الرياض الحبيبة؛ وكل عام نستشرف فيه إضافات جديدة لتلك التظاهرة الثقافية التي تحتفي بالكتاب ودور النشر من خلال عرض حصادها عبر منصاته، وما زلنا نتوق إلى إستراتيجية متينة لصناعة الكتاب من أجل الإبداع؛ وليس من أجل العرض؛ ونتوق لرسائل تقييم للمنتج الكتابي الذي تمتلئ به ردهات المعرض الذي لا يجب أن يكون مختلفًا بل متواشج مع عزم قيادتنا تحصين نواتج بلادنا من الخبن والهِنات وكذلك ما يُستضاف في معارضنا مما يماثلها؛ ولا أرى أن تكون مهمة تقويم الكتب للوزارة المشرفة فقط! بل يجب أن تدخل المنتجات الفرز من قبل المتخصصين أولاً؛ ومن قبل الجهة التنظيمية المشرفة ثانيًا؛ ومن قبل استفتاء ممنهج علميًا تقوم عليه الدار الناشرة للكتاب ثالثًا حتى تكون الساحة الثقافية في بلادنا منبرًا لنشر المبادئ المثلى وإضاءة الفكر المجتمعي وشحذ الهمم للنهوض, ولكي تستوعب محافل أخرى من صيد الأذهان المجزي، وقطوف الفكر وشذرات العقل، وحتى نتمكن من الانتقائية والفرز لابدّ من انعطافة مفصلية في صناعة الكتاب، ومن المنطلقات القوية لتمكين صناعة الكتاب وترقية الذائقة وتعميق المكتسبات المعرفية الثقافية من الكتب ترقية الهدف من إقامة «معارض الكتاب «حتى لا يُحسبُ وجودها من مصفوفات الترفيه فقط! ليكون الهدف الأسمى ترقية المعرفة من خلال مشروعات تخدم الكتاب وتقرّبه إلى الأجيال زُلفى! ومن ذلك وليس كل ما نرومه! أن تتبنى الجهات المعنية مشروعًا ثقافيًا مضمونه تعصير التراث المكتوب الذي تمتلئ به ردهات دور النشر ولا مساس!! فصناعة كتب التراث القديم ومتونها بأدوات الحاضر وصياغتها بأسلوب ميسر وإيجاز مطولاتها واختزال متونها ومجلداتها مع إحاطة مضامينها بأطواق من الحماية عن التحريف والتبديل والتغيير, ليخرج التراث العلمي والأدبي (الثقافي الأصيل) من حصاره المتعدد وحصونه المنيعة فهمًا واستيضاحًا التي لا يستطيع اختراقها في هذا العصر إلا المتخصصون وأولي العزم منهم، وربما يكون هذا الاختراق خلال حاجة البحث عن معرفة أو توثيق معلومة أو الوصول إلى ترجيح معلوماتي لمصادر عديدة.
وهذا المشروع سوف يخرج التراث من أكنانه إلى عالم اليوم وثقافة العصر؛ وإلى الإعلام بأشكاله وقنواته وإلى مكتبات المدارس الخاوية على متونها؛ وإلى المكتبات العامة والخاصة فيغدو وهجه عصريًا في معارض الكتاب فيحتفل بها عالم المثقفين اليوم بكل الفئات والأعمار، وتسعد به الأجيال كما تسعدهم مسرحية يتوشح القص التراثي مشاهدها؛ إضافة إلى أن مشروع تعصير التراث المكتوب سوف يؤسس مكتباتنا اليوم لنغمات ثقافية جديدة تلبس حللاً جديدة أيضاً مع المحافظة على أصالة التراث ورونقه وبريقه وقدرة معلوماته على إحداث المعرفة وفصل الخطاب.
ومما يحدوني الأمل إليه أيضًا أن تتحقق من خلال الكتاب السعودي خاصة صناعة ثقافية يراهن عليها العالم من حولنا؛ مضمونها الرؤية العميقة, والاعتدال والعدل, واللغة الهادئة, والصوت العاقل, ثقافة يعتدل من خلالها المائل, ويعذب الماء, (وتصبح الأرض مخضرة).
وختامًا، فإن ضحالة الفكر الثقافي، وانحداره, وانهيار قيمة التعبير, واستجلابه من آفاق ربما كان حضورها يجعل صناعة الكتاب المحلي (يتوارى من سوء ما بشر به)، يحتاج إلى أن تكون لدى المرجعيات المعنية بصناعة الكتاب حقائق مقنعة يدفع بها للمؤلفين, ويقبلها المتلقي, وأن يبحث عن بدائع الفكر, وجليل القول, وأن يحفز الناشئة على القراءة الناقدة, وأن يحتفل بصناعة الكتاب الخلّاق, كما يحتفى بالفوز الرياضي ومن في مقامه.
فنحن نحتاج إلى صناعات ثقيلة للفكر من خلال الكتاب، يحيطها قدر كبير من الانفتاح على المجتمع، وأن يكون موقفنا من هذا التراث الثقافي الضخم في عصر العلوم والفنون والمخترعات، وعصر تواشج الأمم وتقاربها واندماجها موقف المفاخر المستفيد بما تحتويه أكنانه، وما تختزله من فكر أسلافنا، وأن يكون ذلك منطلقاً لصناعة جديدة تكون من محفزات ارتياد معارض الكتاب من قبل الأجيال الحاضرة والمستقبلية في بلادنا.