خالد بن حمد المالك
تأخرت في كتابة كلمة تأبين في حق رجل كان ملء السمع والبصر حين كان أميناً لمحافظة جدة، في فترة ازدهارها وتطورها، وظهورها كعروس حقيقي للبحر الأحمر، بلمسات الفنان والمهندس المبدع الدكتور محمد سعيد فارسي.
* * *
فقد كان الفقيد صاحب ذائقة فنية عالية، وخيال واسع، وفكر خلاق، ونصيراً للجمال، ومحركاً للبحث عن كل قديم مثير، وعن كل مظاهر المعاصرة وبما لها من علاقة بتاريخنا وتراثنا، وامتداداً بما يكون ذا صلة باستمتاع وتذوق من يسكن جدة أو يزورها.
* * *
أعاد الفارسي -رحمه الله- آنذاك الحياة إلى جدة، بإحداث ثورة فنية في بحرها، وأرضها، وشوارعها، وميادينها، ما جعل منها لوحة جميلة لافتة أينما اتجهت.. وإنك كلما ألقيت نظرك في إطلالة سريعة نحو مخزونها من مظاهر الجمال، وتميّزها بالجمع بين القديم والحديث سترى وكأنك أمام (فترينة) تختزن هذه اللوحات في أجمل وأرقى وأرق إبداع.
* * *
اهتم الفارسي بالمجسمات، مستمداً فكرتها من القرآن الكريم، والشعر العربي الأصيل، ومن عمق التراث العربي، والتاريخ المجيد، وعبرت هذه المجسمات والمنحوتات، فضلاً عن أشكالها الجمالية، عن معانٍ وثقافات لخليط من كبار الفنانين رواد الإبداع الفني العالمي، وهم يضعون إبداعاتهم على امتداد الشواطئ والميادين والشوارع في عروس البحر الأحمر.
* * *
وضمن هذا الاهتمام، وتزين جدة بهذه الأشكال الجمالية، كانت نافورتها العملاقة تشكل مظهراً آخر من مظاهر هذا الجمال الساحر، وكل هذا كان جزءاً من خيال الفارسي، وشكلاً من أشكال اهتمامه بإظهار العروس بما يليق بها من جمال وسحر وبهاء، في زمن لم يكن أحد يفكر في مثل هذه اللمسات الجمالية، فإذا بالمدن والقرى الأخرى تحاكي جدة لاحقاً في هذا التميز، وإن لم تصل إلى مستواه، كما أن أمناء جدة بعد الفارسي لم يستطيعوا أن يقدموا ما قدمه الفنان محمد سعيد فارسي لهذه المدينة الشاطئية الجميلة.
* * *
ومع هذا فلم يكن الدكتور الفارسي بلا خصوم أو معارضين، أو أن الجميع كان على توافق مع أفكاره وعمله، فقد رأى البعض في عمله رغم كل هذا الجمال، أنها أعمال شكلية صرفته عن الأهم بما هو أهم، وهو تنفيذ الجسور وشق الطرق وغيرها.. مركزاً اهتمامه على الأراضي البيضاء ليبني منها جدة الجديدة، مكتفياً -على حدّ قولهم- بالمحافظة على جدة القديمة، أو جدة التاريخية بوضعها كما كانت، مع لمسات محدودة، من جهده واهتمامه.
* * *
غير أن هؤلاء لم يكونوا منصفين حقاً، فقد اهتم بالبحر ووظفه في إنشاء بحيرات صناعية، دون أن ينسى جدة القديمة، كما خلق من البحر متنفساً لأهالي جدة وزوارها بالتحسينات الكبيرة في شواطئه، مع عمل كبير للإبقاء على هوية جدة وتاريخها من خلال مبانيها وأحيائها القديمة، وتدخل بالتوافق مع أصحاب الأراضي والمباني في تخطيط الأراضي، وتصميم الأشكال الخارجية للمباني، ووضع جهداً مقدراً في الإبقاء على أحياء جدة القديمة دون أن تمسها معاول الهدم، أو تغري أصحابها العروض المالية لإزالتها.
* * *
وقد كنت شاهداً على ذلك، حين دعاني ذات يوم إلى جولة معه، وهو يقود السيارة بنفسه ليطلعني على مشروعات جدة في شمالها وجنوبها، ويحدّثني عن الأفكار المستقبلية لما ينوي تحقيقه، وإشادته بدعم الملك فهد له في كل خطواته، ما لا يمكن لمنصف أن يتجاهل هذا العمل الكبير الذي غيَّر به الفارسي وجه جدة نحو الأجمل والأحسن، دون أن يفرط بتراثها وتاريخها وماضيها الجميل.
* * *
لقد خسرنا حين تقاعد عن العمل، وغاب عن معشوقته جدة، مفضلاً أن تكون أيامه الأكثر يقضيها في الإسكندرية، دون أن تكون له مشاركة أو مبادرة لتتواصل ولو تطوعاً إنجازاته، لكن لحسن الحظ أن أغلب الأعمال الفنية التي كانت بلمسة منه بقيت إلى اليوم شاهداً على فترة غنية وثرية بالإبداع، وأنه كان وراءها فنان كبير، مدعوم من ملك عظيم هو فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله-.. ومن حسن الحظ أيضاً أن يكون أمير المنطقة خالد الفيصل الشاعر والفنان، ليضيف الكثير من الجمال إلى جدة ما بعد الفارسي.