د. محمد عبدالله العوين
كانت مكتبات شارع البطحاء في عمارة الدغيثر والبنايات الأخرى المجاورة لها تمنح بسخاء وأريحية الشغوف بالقراءة كل ما يشتهيه ويعشقه في تسامح كبير وتنوع مثير وتعدد في المشارب الفكرية والأدبية.
من مكتبات ذلك الشارع المثير للدهشة والتعجب من تعدد أسواقه وتنوعها بدأت خطوة العشق الأولى وكانت عند الواجهة الزجاجية لمكتبة «الوهيبي» التي كانت تقع على زاوية عمارة الدغيثر بين البطحا والمرقب.
كانت جريدة الرياض مطلع التسعينيات الهجرية من القرن الماضي غير بعيدة أيضًا عن سلسلة المكتبات المتتابعة المطلة واجهاتها على فضاء شارع البطحا العريض ذي الاتجاهين الفاصل بينهما نهر واسع عميق لا يتدفق بماء عذب؛ بل بمخلفات وتسربات مياه الأحياء والسيول في المواسم الممطرة.
وكان على المجرى جسور خشبية متواضعة موزعة على مسافات متباعدة تواجه أماكن العبور إلى الأسواق ويرتفع على جانبي كل جسر سياجان من الحديد والخشب يحميان العابرين من السقوط.
لم أنس رائحة الزيارة الأولى لذلك الشارع عام 1391هـ فقد ذرعته جيئة وذهابا، وابتدأت بمكتبة الوهيبي الغنية بكتب الفقه والتفسير وعلوم اللغة العربية والتاريخ وشيء قليل متحفظ من الكتب الأدبية، ثم قلبت كل كتاب ومجلة في المكتبات المتتابعة التي تعرض أنواعًا مختلفة من المعارف والآداب بدون توجه محدد ووجدت فيها ضالتي الأدبية التي أبحث عنها، ولا شك أنني شعرت بشيء غير قليل من الزهو بأن تعرفت على روايات نجيب محفوظ ومصطفى محمود ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وعلي أحمد باكثير ومحمد سعيد العريان ويوسف حبشي الأشقر وغادة السمان وروايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان، وكنت شغوفا بها إلى حد الإدمان على قراءتها أكثر من مرة حين أشعر أنني نسيت بعض أحداثها ولا أجد للكاتب رواية لم أقرأها، فقد قرأت أول رواية من أعماله «أرمانوسة المصرية» في مكتبة المعارف بمدينة الحوطة مطلع تلك السنة، فاشتريت ما استطعت شراءه بما بقي في يدي من ريالات قليلة، كانت تلك الريالات موزعة بين «غادة كربلاء» و»عذراء قريش» و»الأمين والمأمون» و»العباسة أخت الرشيد» وعشرة أعداد قديمة من مجلة «العربي».
وكان شعور يداهمني بأنني لو لم أقتن ما يمكنني اقتناؤه بما في يدي من ريالات قليلة فلن أجد كثيرًا مما خلب لبي من كتب ومجلات في زيارة أخرى قادمة قد تكون بعد سنة أو أكثر، وهو ما أثقل كاهلي بما حملته من أكياس في اليدين وكرتون صغير على رأسي.
ليست مجلة «العربي» وحدها تلك التي تختبئ أسفل الكرتون على رأسي فقد كان بجوارها أعداد مختلفة من المصور وآخر ساعة وروز اليوسف وصباح الخير وفوقها كتاب «رحلتي من الشك إلى الإيمان» لمصطفى محمود.
ومررت على شارع المرقب فلفت انتباهي لوحة كبيرة على مبنى متواضع لجريدة الرياض، لم أملك الشجاعة للدخول إلى المبنى على الرغم من أن الباب موارب ويكاد يخفي خلفه رجلا مسنا جالسا على كرسي.
وكان صوت هدير المطبعة وألوان الحبر التي لم يسلم منها الباب ولا الرصيف رسم لي عالمًا خياليًّا من سحر الكلمات وأناقة شخصيات الكتاب الذين ما كنت أعتقد أبدًا أن أحدًا مثلي في تلك السن الصغيرة يمكن أن يحظى بالحديث معهم أو السلام عليهم.. يتبع