تركي بن رشود الشثري
الحصانة الفكرية مطلب ضروري ملح خصوصاً عندما نقف على الآثار العاتية لرياح التواصل السريعة والتي لا تعط فرصة لالتقاط الأنفاس وفحص كل جديد ومع إطلالة هذا المعرض الجديد للكتاب نطرح هذه الأسئلة للاقتراب للمعنى الذي نود تقريره وهي:
ما معنى الحصانة الفكرية؟
الحصانة الفكرية حال يتخذ صفة الدوام ولاتناله عوار الفترات فهو بمنأى عن تقلب الأحداث وسيرورة الأيام وتغير البيئات ولا نعني بذلك الجمود والركود ولزوم طريقة واحدة في التفكير نمرر من خلالها جميع ما يطرأ علينا من عمليات ذهنية لنخلص لنفس النتائج في كل مرة, بل لعل ما هو أقرب لهذه الحال ما يعرف بالمرونة مع المتغيرات والصلابة أمام الانحرفات أو الثبات مع الثابت والتحرك المنضبط مع المتحرك والخفة النفسية والرشاقة العقلية التي تتكفل لنا بمجابة جميع الوقائع مع كل الناس وأمام المعطيات العالمية الهائلة والتي ما فتئت تتسارع وتزداد سيولة.
كيف أعرف أنني محصن فكرياً؟
أنا محصن فكرياً إذا كنت معتدل المزاج غير ميال للأحكام الحدية وفي الوقت نفسه غير متقلب الهوى فأعرف عن نفسي مثلاً أنني اليوم مع وغداً ضد في كل أمر وبلا مبرر وهذا توضيح وتبسيط بضرب المثال, إذاً من خلال الاستقراء لأحوالي وتمريري للمواقف وتعاملاتي الذهنية معها أستطيع رسم صورة مجملة عن مدى تحصيني الفكري.
وهنا لم أذكر عرض نفسي على الكتاب والسنة لأرى هل أنا محصن فكرياً أم لا لأن الخوارج يزعمون أنهم محصنون بالنصوص والمرجئة يزعمون أنهم محصنون بالنصوص وكل يدعي تحكيم الكتاب ومع ذلك لا يسلم لهؤلاء وأولئك بما يزعمون وإنما المقياس الذي جعله الله برهاناً على صدق التمثل هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان القوم يتصفون بالاتباع الجزئي فقد خالفوا حال الصحابة اعتقاداً وعملا فقد كان الخوارج في آخر عهود الصحابة فريق والصحابة فريق آخر وجاءت المرجئة بعد ذلك كردة فعل مرتجفة على عنفوان الخروج فكانت سبيلاً متميعاً لم يعهد من عمل الصحابة وقيلهم وعليه فالدعاوى ليست كافية وهذا استطراد يسير ولكنه مهم والعود على ما بدأنا به التعرف على أنفسنا وموقعها من الحصانة أدق وأسهل في التصور والتعرف على من نكون فإن قصرت بصائرنا عن هذا استعنا بمن نثق بعقله ونصحه من أستاذ قديم أو شيخ قريب لا ليحكم علينا بالحصانة الفكرية من عدمها بل لنستأنس بما يقول ونضمه لما نعتقد عن أنفسنا لندري موقعنا من الحصانة الفكرية وبالفعل أنت أعلم الناس بنفسك شريطة أن تتخلى عن الهوى والأغراض لبرهة وتجلس جلسة محاسبة كيف هي عقليتك مع المقروء والمسموع وحوادث الدهر مع سؤال أهل العلم إن كنت لا تعلم.
لماذا نتحصن فكرياً؟
نتحصن فكرياً لأن العقل نعمة وأحرى ما نشكر به هذه النعمة هي الصيانة والديانة وحفظ الرأس وما وعى بفحص المدخلات والتريث عند أداء المخرجات فلا نكن ولاجون خراجون في كل حدث وموقف لنا لسان وعين, بل لا نقف ما ليس لنا به علم ولا نقول ما لا نعلم ولا نصيب قوماً بجهالة كلما جاءنا فاسق بنبأ فنكون من النادمين.
نتحصن فكرياً لنتخلى عن أحكام الجاهلية الجائرة كتقليد الآباء والأجداد وطلب المعجزات المادية والتمحل والعناد والاستكبار والجحود للحقائق واللغو والإعراض عن البينات فإن من عرف أن الحق حق وأعرض عنه فقد يعاقب بأن لا يهدى إليه كما عرفه أول مرة.
نتحصن فكرياً لننجو في الآخرة ونفوز بالجنة فأصحاب العقول الزاكية هم سكان الجنة هم أولوا الألباب والذين هدتهم هذه العقول للعلم بالحق وقبوله ومحبته وتصديقه واليقين به وهدتهم هذه العقول لتأجيل الرغبات والاقتصاد في المشتهيات واتخاذ القرارات الصائبة في الحياة ومع الناس من العفو والسماحة والصفح والمرونة النفسية وربط ذلك بالإيمان بالغيب {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (85) سورة الحجر.
نتحصن فكرياً لنستمتع بالحياة فالحياة ليست صواباً وخطأً فقط وليست تجريدات مثالية بل خلق الإنسان من عجل وخلق الإنسان ضعيفا وللنفس أطوار في العبادة والعيش والدعاء في أحوال الشدة والرخاء فمن النفوس من تعبد على حرف ومنها من إذا أصابه خير اطمئن به إلى غير ذلك وسياسة النفوس بالعقول الراشدة لذة عقلية خالصة يتمتع بها أصحاب الحس الدقيق والذوق الرفيع وهؤلاء هم الناس وهؤلاء هم الأحياء وهؤلاء الذين يتمتعون بالطيبات أكثر من البهائم وهي لهم خالصة في الحياة الدنيا من دون الناس.
هل التحصن الفكري إيجاد أم عدم؟
التحصن الفكري إيجاد وليس عدم والسبب في انقداح المعاني العدمية في الذهن عندما نسمع كلمة حصانة أنها رديفة الدفاع والتقوقع والحماية ولكن كل من الدفاع والتقوقع والحماية لا يتم إلا بصدفة فكرية منيعة تمنع تسرب المفاهيم المغلوطة عن الحياة والناس ولا يكون ذلك إلا ببناء معرفي روحي راسخ لا تعمل فيه ثغرات تسارع الزمن وعفوه على القديم من التراث كما يخيل للكثير مع نبرة قلبية معتزة بالثقافة المسلمة وبالقرآن وبالسنة وتعيش على أساس صلاحية الإسلام واقعاً لا دعاوى متشككة ولا ردود أفعال تجاه العلم الغربي الظاهري.