د. حسن بن فهد الهويمل
كل منهج معرفي مشدود بأمراس كتان إلى الأنساق الفكرية، والمعرفية، والثقافية التي نشأت في ظلالها.
والحضارات تتداخل كالدوائر في علائق إنسانية، فما تداخلت فيه يشكل قواسم مشتركة، وما لم تتداخل فيه يشكل خصوصية، مبعثها الدين، والفكر، أو الثقافة أو كلها معاً. والاختلاف حق مشروع، والثوابت ظواهر طبيعية لا يجوز التعدي عليها، ولا الخلوص منها.
وليس من الخطأ الاحتفاظ بالخصوصية؛ بل أكاد أجزم بتميز أي حضارة تمتلك قدراً من الخصوصية، شريطة ألا يعوق ذلك مسيرتها؛ ولا يعزلها عن المشهد الإنساني.
ومن حق أي حضارة أن تلتمس الطريق القاصد للأخذ المحسوب من المستجد، والعطاء المعروض، لا المفروض؛ دون تنافر، أو صدام مع الآخر.
والإشكالية المتنامية بين (الحضارة الإسلامية) و(الحضارة الغربية) منشؤها هاجس الاستعمار الحضاري، المتمثل بتصدير الفكر، والمنهج، وأسلوب الحياة، فضلاً عن أن الإسلام يشكل العدو الرئيس للحضارة الغربية.
لقد مرَّ الصدام الحضاري بحروب شرسة، تمثلت بـ (الحروب الصليبية)، وتاريخها مليء بالمآسي. ولما لم تُجْدِ المواجهات العسكرية تحرف الغرب لعمليتَي (الغزو) و(التآمر) وتفكيك الكيانات، وتمزيق التكتلات، فكان إسقاط (الخلافة العثمانية) القابلة للإسقاط، والمستحقة له بسبب إهمال الولايات، وسحقها عند المطالبة بحقها، وحركة التتريك. ثم تمزيق العالم العربي بـ:(اتفاقية سايكس بيكو)، ثم ممارسة (الاستعمار) التقليدي إشاعة ثقافته، وتعلم لغته.
كانت بداية الاتصال بالغرب (حملة نابليون) التي غزت (مصر) بأكثر من أربعمائة سفينة، جلُّها من العلماء، والأدباء، والمغنين، والممثلين، الأمر الذي أحدث عند المصريين صدمة حضارية، أدت إلى سريان معطياتها، واستقبالها بكل أوضارها.
وتبع ذلك ظاهرة الابتعاث، واستقدام المستشرقين للتعليم، والتوسع في الترجمة، واتساع ظاهرة الاستشراق. والقنوات الخمس: الاستشراق، والابتعاث، والترجمة، والاستعمار، والتبشير الديني، والحضاري، هي جسور التواصل مع الفكر الغربي، وآدابه، ومناهجه، وألوان حياته. ولو أن الأدباء، والعلماء، والمفكرين أحسنوا الاستقبال، وعرفوا قدر تراثهم، لما آلت الأمور إلى ما هي عليه من تبعية مهينة.
ولقد يكون بالإمكان التفكير الجاد في إعادة صياغة منهج جديد للتعامل مع مستجدات الغرب، تحفظ للفكر العربي وآدابه ومناهجه ما هو أهل له من الندية، والمشاركة الفعلية وإنتاج حضارة إنسانية متوازنة.. إلا أن المعركة غير المتكافئة خلطت الأوراق، وأربكت المسيرة.
ما تحاوله جامعاتنا اليوم هو مشروع متواضع، قد يحيد بالبعض منّا إلى جادة الصواب بحيث تتيح لتراثنا حضوراً مشرفاً، هو أهل له بما ينطوي عليه من أصالة لم يسبق إليها.
(القابلية للتبعية) تحمل البعض منا على قبول الآخر كبديل، وليس كرديف.
ظاهرة الاستغراب متفشية كالوباء، وهي دركات؛ فمن المستغربين من يجهل تراثه جهلاً تامّاً بحيث يتبنى المناهج الغربية، والتفكير الغربي، دون التواصل مع التراث، ظناً منه ألا مكان للموروث.
ومنهم من يعرف التراث، ولكنه مجند لمواجهته، والعمل على تنحيته، والتبشير بالفكر الغربي، ومناهجه، وآدابه، واستبدالها كخلف مستبد لا ينازعه في مشاهدنا أحد.
ومنهم من يرى أن التراث هو العامل الرئيس في تخلفنا، ومن ثم يجتهد في تهوينه، واقتلاعه من مشاهدنا.
وكل هذه الممارسات دركات، أو درجات، حفل بها المشهد الأدبي، وألهانا عن التحرر الجاد، والتحيز الواعي.
وهؤلاء، وأولئك تتفاوت قدراتهم، وإمكاناتهم، ومناهج ممارساتهم، ولكنها صراعات فارغة، استنزفت الجهد، والوقت، وألهتنا عن كل مكرمة، كالقصيدة التي قالها (ابن كلثوم).
هؤلاء، وأولئك منهم القابع في عباءة التراث المستغني به الراحل إليه المتقوقع فيه، المجالد المجاهد لكل من تخطاه إلى غيره، ولكل من تخطى به إلى غيره. ومنهم الراحل به المستصحب له، القابل للتعايش مع الغير، الآخذ بأحسن المستجد.
هذا التناقض هو بعض إشكاليات المشاهد؛ بل هو الموهن والمخبل لكل حركات الإصلاح والتوفيق، والأخذ بأحسن المستجد.
(النقد الحديث) الذي يسعى لتحقيقه الخيرون من الأدباء، والمفكرين، وسائر (الأكاديميين)، يعيش في أتون هذا التنازع المفشل، وما من أحد من أولئك إلا هو آخذ بقسط من تلك الإشكالية.
أحسب أن المتنفذين بدؤوا يعون المشكلة، ومن ثمّ أعادوا قراءة المشهد بكل اتجاهاته، ويقيني أن الخطوة الأولى المسددة تكون في فهم الذات وما هي عليه.
ولكي تتضح الرؤية، وتبين سبل الرشاد، لا بد من تحرير المسائل، وتأصيل المعارف، واستبانة صنوف الحراك في المشهد النقدي العربي الحديث:
- فما مبلغ تراثنا من هذه النظريات والمناهج؟
- وما إمكانياته للتفاعل مع الغير؟
- وما القدر الكافي لاستحضاره؟
- وكيف تتم المواءمة بينه وبين المستجد؟
تساؤلات لا بد من أن تسبق الرؤية، وتمهد لها فـ (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) ومشاهدنا:
(ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان)
وهي مأزومة في هذه الأوضاع، وحاجتها إلى نقاد متضلعين بمختلف المعارف.
إن ما يشغل المشهد، وما تفيض به أوعيته (الألسنية) بمختلف تنوعاتها، واتجاهاتها، وتحولاتها:
- الألسنية البنيوية.
- الألسنية التفكيكية.
- الألسنية التوليدية.
- الألسنية التقابلية.
- الألسنية التحويلية.
- الألسنية التداولية.
- الألسنية ما بعد البنيوية.
- الألسنية المعيارية الوصفية.
- البنيوية وعلم الإشارة.
- البنيوية التكوينية.
- التوليد الدلالي.
- الوظائف التداولية.
وقل ما شئت عن المصطلحات، و(المابعديات)، و(موت النقد)، و(موت المؤلف) و(موت النص).
ومما يشغل مشاهدنا التفكير الجاد في إيجاد ألسنية عربية، تمارس التحليل التركيبي الموائم بين (نظرية الإعراب) في علم النحو، و(التفكيك) بوصفه نظرية قريبة من المعيارية النحوية.
وهي مهمة صعبة، تتطلب علماء متضلعين باللغة العربية، واللغة الأجنبية المنقول منها سائر النظريات الألسنية في أبعادها الفكرية، واللغوية.
فمن ضعفت قدراته، وقلّ استيعابه في اللغة المنقول منها، والمنقول إليها بدا خلله، واضطرب تعريبه. وهذا بعض ما تعانيه مشاهدنا المعرفية، والثقافية، والأدبية، والفكرية.
لقد بهرنا الغرب بمنجزه المعرفي، والتقني، ولما نخلص من لحظة الاندهاش. وكثير من علمائنا، ومثقفينا ما زال مرتهناً لهذه اللحظة المشدوهة.
علماء التراث المتمكنون استغنوا بموروثهم، وأجادوا في استعادته، ولم يستفزهم المستجد، ومن ثم كان فضلهم محصوراً في استدعاء التراث: تحقيقا، ودراسة، وتطبيقاً.
يتقدمهم العلامة (محمود شاكر) وطائفة من علماء الأزهر، وبخاصة جماعة (الأمناء) الذين يتزعمهم (أمين الخولي)، ومن بعده (أبو موسى) الذين جددوا البلاغة العربية، وبعض المبتعثين الذين لم يرق لهم نقل معارف الآخرين أمثال: (محمد غنيمي هلال) و(زكي مبارك)، وآخرون أوغلوا في الاستغراب وإن كان لهم قدم صدق في التراث كـ(طه حسين) الذي هز الوسيط الثقافي حين أصدر كتابين مثيرين (في الأدب الجاهلي) و(مستقبل الثقافة في مصر).
لقد مارس فيهما ما يمكن تسميته بالعصف الذهني، بحيث ثارت ثائرة العلماء، والأدباء، والمفكرين، واستعادوا التراث لمواجهته.
ولكن التصدي لـ(طه حسين) لم يكن متوازناً، ومن ثم أوغل في الاستغراب، واتخذ من مناهجهم في دراسة الأدب العربي: شعره، ونثره، ومحصلة ذلك عشرات الكتب، وفي مقدمتها (حديث الأربعاء) في ثلاثة مجلدات.
وخلف من بعد العمالقة من أوغل في الاستغراب كـ(جابر عصفور)، ويقابله من أوغل في التراث المؤسلم كـ(أنور الجندي)، وكل أولئك لا يصلحون لمواجهة المستجد.
وقل مثل ذلك في مواجهة ظاهرة (الاستشراق) فـ(محمود محمد شاكر) في (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) جار على ظاهرة الاستشراق، وصادر كل حقوقهم، فيما اختلفت المواقف وتباينت الآراء من بعده؛ فمن متحامل يرى أن الظاهرة استعمارية صليبية، ومن معتدل ينصفها، ويقول فيها بميزان العدل، والحق كالدكتور (علي النملة) ومن قبله (إدوارد سعيد) مع شيء من التفاوت.
وعلى كل الأحوال، فالاستشراق ظاهرة حضارية، لها وعليها، ولسنا بصدد استقصائها، ولكننا نضرب الأمثال؛ لتمهيد الطريق، وسبر أغوار المشاهد الصاخبة بالمتناقضات.
وموروثنا النقدي المتماسك من (العصر الجاهلي) إلى العصر الحديث يجهله الكثير من حراس التراث، ومن يسمحون لأنفسهم بالذود عنه، تجتاح الكثير منهم العاطفة الدينية، والقومية المتحاملة. إنه تاريخ حافل بالعلماء، والكتب، والنظريات، والمناهج.. فيه تكمن بذور النظريات الحديثة.
لقد كان لي شرف الاشتراك في ندوة (قراءة جديدة لتراثنا النقدي) الذي ينظمه (النادي الأدبي الثقافي بجدة) عام 1409هـ بحيث قدّمتُ في تلك الندوة بحثاً أثار جدلاً بين (الحداثويين)، و(المجددين) تحت عنوان: (ملامح الموروث في الظواهر النقدية المعاصرة)، قسمتُ فيه المشهد الأدبي إلى (فئة تدعي النهوض بالاستكشاف، وتمعن في ادعاء الاستشراف المستقبلي، وتسخو باتهام المناقض لوقوعه تحت طائلة الاستعادة، والرجوع، واجترار الماضي)، و(فئة تتشح برداء المحافظة مستصحبة مع الادعاء اتهام الأطراف الأخرى بالتغريب والتنكر)(1).
وقد توخيت الاستقلالية في الرأي (إنه حديث الواثق بموروثه، المعتز بعمقه التاريخي، وأصالته، وثقته بقدرة هذا الموروث على المحاورة، حديث المعتز بأنّ الموروث إنساني).
لقد أشرتُ إلى أن موروثنا يفيض بالإضافات، والتأسيس لنظريات لغوية، وفنية، وشكلية. والفتح الإسلامي أضاف، واستضاف، وتفاعل مع سائر الحضارات الإنسانية.
فالعلوم والثقافات تدفقت عن طريق (الفتح الإسلامي)، و(الترجمة) تحولت إلى خلايا غير متميزة في جسم الحضارة الإسلامية، كما أن المعارف العربية تسربت كالخَدَر في أجسام الثقافات الأخرى.
(جولان رييبرا تـ 1934م)(2) كاد يقطع بأن (شعراء التوباد) - وهم أول من عالج الشعر الغنائي في أوروبا - لم يفعلوا أكثر من تقليد نماذج الوشاحين والزجالين الأندلسيين الذين سبقوهم بقرنين(3). ومن المستغربين والمستشرقين من ردّ هذه الرؤية المنصفة(4).
وقد أشارت المستشرقة (زيغريد هونكة ت 1999م) في كتابها المشهور (شمس العرب يسطع على الغرب) إلى أشياء كثيرة، استفادها الغرب من الشرق. وقالت إن (الحملات الصليبية) كان معها أدباء وشعراء، دخلوا الشام، وإسبانيا، وعرفوا بـ(الجوالين)، نقل هؤلاء شطراً من الآداب، والثقافات العربية.
ولن ننسى (الموريسكيين)، وهم المسلمون الذين بقوا في إسبانيا يتكلمون الإسبانية، ويكتبون بالعربية.
أدبنا (العربي) بشقيه: الإبداعي، والنقدي أدب حي يعي عنصرَيْ: التحول، والثبات؛ الأمر الذي حفظ له البقاء والنمو(5).
وواجب الناهضين بمهماته أن يعوا ذلك، وألا يرتابوا من المشككين، والمخذلين، والتبعيين القابلين للتبعية، ممن جهل تراثه، ولم يتوافر على الإحاطة بالمستجد، والقدرة على تداوله بالقدر الكافي، والمشرف.
لقد كانت لموروثنا النقدي اتجاهات متعددة، وتحولات جريئة، وتلك بلا شك مؤشرات خصوبة، وثراء، وثقة بالنفس غير هيابة، ولا وجلة.
لقد كان لـ(القاضي الجرجاني) منهج فني نفسي إنساني، تلمسه الدارسون للمذاهب النقدية، وكان لـ(قدامة بن جعفر) منهج عقلي يحكم بصره ورؤيته. وكان لـ(عبد القاهر الجرجاني) منهج تحليلي يعتمد على البناء الجملي والأسلوبي، وهو صاحب (نظرية النظم) التي حلت الإشكال بين (السنة والاعتزال)، وأسقطت نظرية (الصرفة)، وجاءت الشمولية عند (حازم القرطاجني)، وزمن النضوج مهدت له مراحل سلفت فـ(أبو عثمان الجاحظ) يقول: «طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يحسن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار، وما يعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات»(6). وهذا يؤكد التعدد في المناهج والمواقف من نظرية الشعر.
فالشعر عند (الأصمعي) تشكيل لغوي، وعند (الأخفش) مادة نحوية، وعند (أبي عبيدة) أداء دلالي.
هذه مذاهب ثلاثة في دراسة الشعر ونقده، اختص بكل واحد منها عَلم من أعلام الأدب، له أشياعه وأتباعه.
فالخليل عالم بموسيقاه، والأصمعي عالم بلغته، والأخفش عالم بنحوه، وابن وهب والزيات يعرفان مناحيه الجميلة، والشعراء يدَّعون أنهم أعرف به لأنهم دُفعوا إلى مضايقه.
لقد دُرس (التفكير الصوتي عند الخليل) من حيث المخارج، وصفات النطق، والهمس، وصنِّفت الصوائت والصوامت عنده، والقيمة التبادلية للحروف (الفونيم) قبل أن يكون للحضارة الغربية وجودٌ. وعرفت مذاهب وتيارات بحيث تمثَّل (الآمدي) المنهج التطبيقي، وتمثَّل (الجرجاني) المنهج التطبيقي القياسي.
هذا التنوع في فئات النقاد يجعلنا نؤمن بأنّ نظرات السلف إلى الشعر متباينة، وكل نظرية تنطوي على نواة لمنهج حديث. حتى إذا تلاقحت الحضارات تحولت تلك الإشارات إلى نظريات، وادَّعى الغرب ابتكارها وما هي كذلك.
نعم للغرب الفضل والسبق في تحويل الإشارات من شذرات منتشرة وإشارات متفرقة إلى نظريات ذات قرار مكين.
لقد أصيبت النظريات النقدية الحديثة بشيء من الغبش؛ فالنقاد العرب استقبلوا نظريات علم اللغة عند (سوسير) وسائر علماء اللغة في الغرب، كما استقبلوا النظريات النقدية عند الشكلانيين الروس كـ(مدرسة براغ) وغيرها، ولم يفرقوا بين النظريات المختلطة: النظريات في علم اللغة الخالص لقضايا اللغة، ونظريات النقد اللغوي.
والنقد الحديث استعان بـ(علم النفس) و(علم الاجتماع) و(علم اللغة)، وليس من حق النقاد الخلط بين تلك العلوم.
عُرف (العقاد/ ت 1964م) بمنهجه النفسي، وعُرف (طه حسين/ ت 1973م) بمنهجه الاجتماعي المتناغم مع منهج (تين)، وما أحدٌ من أولئك خلط تلك المناهج بمناهج النقد الخالص.
(علم اللغة الحديث) استفادت منه تنقلات (مركز الكون النقدي) عندما تجاوزت سلطة المبدع إلى سلطة النص، ثم إلى سلطة المتلقي.
وفي بحثي (تحولات مركز الكون النقدي وأثرها في المشهد المحلي)(7) أشرت إلى أن النقد جواهره ثابتة، وأعراضه متحولة، وأشرت إلى تنقلات مركز الكون النقدي بين:
- منتج النص.
- والنص المنتج.
- ومتلقي النص.
وما نسلت من تلك النظريات والمذاهب إلا استجابة لتنقل مركز الكون النقدي. والتراث النقدي يبدو خافتاً، أو ساطعاً في هذا الحراك لا يتخلف، ولكنه لا يتصدر المشهد النقدي، له كمونه الذي يدركه خبراء التراث.
وأشرت في هذا البحث إلى جدلية الرفض والقبول المطلقين، وإلى تضارب النقاد في فهم النقد، ومشمولاته.
فكلمة (نقد) مصطلح مشاكس؛ لأنه ذو أبعاد: تاريخية، وفنية، ووظيفية، وآلية، ومجالية. وله عناصره الفنية، وعلومه، وطرقه، ومقاييسه، بحيث لا يكاد يستقر حتى ينهض من جديد بآلية، ومنهج ورؤية مغايرة. إنه في النهاية مصطلح مفتوح على كل الاتجاهات.
والشيء الذي نسلم له، ولا نجد بُداً من الاعتراف به: أن النقد الأدبي الحديث يستمد لحمته وسداه من خيوط النقد الغربي المعاصر، بكل ما هو عليه من جرأة في التجريب(8)، كما أشرت في بحثي (اتجاهات النقاد العرب في دراسة الإبداع السعودي) إلى ما وقفوا عليه من مذاهب شتى، ومناهج حديثة، استصحب بعضهم التراث في تجلية كوامن الإبداع في الأدب السعودي(9).
(النقد الغربي) هو الذي جمع الشذرات، وحولها إلى نظريات، وأنشأ لها مناهج، وآليات، وهي جميعها تمد بسبب إلى شذرات النقد العربي القديم.
لقد أثَرْتُ في بحثي بعض الحداثويين، وجاءت تعليقاتهم ومداخلاتهم حادة ومستنكرة لهذه الرؤية المضخمة للتراث النقدي. من بين أولئك (عز الدين إسماعيل) و(شكري عياد) و(عبد الله الغذامي)، وقد ذُيِّلت مداخلاتهم للبحث المطبوع.
لم يكن النقد العربي، ولا مناهجه، ولا آلياته محدثة، ولا طارئة على المشهد الأدبي. والدارسون، والمؤرّخون، والمحللون، والمقوّمون تقصّوا عصور الأدب، والنقد، واستحضروا النظريّات والنقاد، ورصدوا التحولات، وخلفوا لنا ثروة معرفية معيارية، ندل بها على المشاهد كافّة.
لقد واكب النقادُ الشعراءَ يميزون آثارهم، ويقدرونها، ويقومونها، ويكشفون عما فيها من قوة، أو ضعف، من جمال، أو قبح، ومن تميز، أو تخلف.
(والنقد الأدبي أكثر وجوه النشاط العقلي تأثراً بسائرها وتعبيراً عن اتجاهاتها) (10)
لقد تلمس الراصدون حركة النقد في (العصر الجاهلي) فوصفوه بالسذاجة، والبساطة، والانطباعية، والانفعالية، والذوق ليس فيه تعقيد، ولا دقة، ولا عمق، وظل شفهياً يتناقله الرواة للتندر.
وبعضهم يرى أن (الشعر الجاهلي) والعلوم المتعلقة به ضاع أكثره بسبب الشفاهية: (قال يونس بن حبيب: قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم، وشعر كثير)(11).
فمقولة (ابن العلاء) تشير إلى ضياع العلم إلى جانب الشعر.
وإن أشار (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - إلى أن العلم هو الشعر، وأن ليس لديهم علم غيره: (كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه)(12)
والشعر بكل أبعاده لا يمكن أن تجود به قرائح جاهلة، ولا معارف ضحلة، إنه مؤشر أصالة، ومعرفة.
في الجاهلية أخذ الشعر وضعه، وبدت ضوابطه الفنية، واللغوية، والدلالية، وأصبح النقاد يحتكمون إلى ما ورثوه من شعراء المعلقات، وذهبوا لضبط شكله بالبحور، والتفاعيل، والقوافي، والزحافات، والعلل، والأضرب. وذهب النحاة يلتمسون فيه الشاهد.
وذهب اللغويون يجمعون اللغة ملتمسين الشاهد من الشعر. وذهب المفسرون يستضيئون بمعانيه.
لقد أصبح الشعر معيار اللغة، والنحو، والصرف، والموسيقى. سواء عرفوا ذلك أو لم يعرفوه. نعم لقد استقرت حدوده، ومناهجه، وموضوعاته، تعارفوا عليها وتواضعوا. وتوارثهم يتمثَّل في الرواية. فلكل شاعر كبير رواته.
يقول القاضي الجرجاني: «إن زهيراً كان راوية أوس، وإن الحطيئة راوية زهير»(13)
إنه مجتمع أدب ونقد، ومواضعات لا يحيدون عنها. وشعراء الجاهلية الذين أدركهم التاريخ يعدّون أنفسهم عالة على من سبق: (ما ترانا نقول إلا معارا).
بل ترى أحدهم يعترف بالقدوة:
(هل غادر الشعراء من متردم)
يقول التبريزي: «هل أبقى الشعراء لأحد معنى إلا وقد سبقوا إليه، وهل يتهيأ لأحد معنى لم يسبق إليه». (14)
في العصر الجاهلي تبدت للنقاد تصوراتٌ وملامح، عدّوها عناصر تمثلت في نضج الشعر عند شعراء المعلقات، وبإشادة الشعراء بماضيهم الذي لم يدركه التاريخ، وتجلِّي الحسن البياني حتى أن القبيلة تتلقى التهاني بنبوغ شاعر من بين أبنائها، وأن الشاعر يُقدَّم على الخطيب.
الحياة الجاهليّة لم تكن ساذجة، ولا بسيطة، وهي التي عاشت نضج اللغة، والشعر، ومن إرثها نشأت العلوم المعيارية (النحو، والصرف، واللغة، والعروض، وقواعد الإملاء).
البعد النقدي الذوقي والمعياري تجلت ملامحه في (أسواق العرب)، و(سوق عكاظ) من أشهرها حتى لقد قيل: إن اشتقاق (عكاظ) من (المعاكظة) أي المحاجّة.(15)
ولعلنا نذكر (القبة الحمراء) التي تضرب لـ(النابغة) بسوق عكاظ، وإنشاد (الأعشى) و(حسان)، وقصة (الجفنات) و(الأسياف) و(الضحى).(16) فالأسواق محافل أدبية، أسست لحركة نقدية معرفية معيارية، سبقت الوجود الغربي.
لقد بدأ النقد شفوياً، لا تحفظ منه إلا شذرات، ثم بدأ تدوين الشعر قبل النقد؛ فدونت الدواوين، ثم المختارات، ثم شعر القبائل، ثم التأليف في الشعر والشعراء، ثم كُتب الأدب كافة. وبدأ التأسيس المعرفي المعياري للنقد من القرن الثالث إلى الخامس. وسوف نشير إلى النقاد وكتبهم، وإلى الظواهر النقدية والبلاغية بوصفها آلة نقدية جمالية. لقد بدأ النقد المدون اتباعياً، يلتمس الإرث الجاهلي، فظهر مصطلح (الفحولة)، وتجلت مفاهيم النقد في مقدمة (طبقات فحول الشعراء).
وذرّ في أثناء ذلك (صراعُ الشعوبية) الذي نقل معه معارف الداخلين في دين الله أفواجاً، وأخذ الشعوبيون بالمستجدّ متكئين على كتابَي (الخطابة والشعر) لأرسطو، فيما تمسك آخرون بالموروث؛ فجاء (ثعلب) بـ (قواعد الشعر) و(ابن المعتز) بـ(البديع) و(قدامة) بـ (نقد الشعر).(17)
لقد شكل هذا الصراع أرضية صلبة للنقد بمختلف الاتجاهات، وبـدأ التداخل بين البلاغة والنقد عند (ابن رشيق) في (العمدة) وعند (القرطاجني) في (منهاج البلغاء).
ونضجت فكرة الموازنة والخصومة حول المتنبي، واستقرت (نظرية السرقات) عندما ألف الخالديان (الأشباه والنظائر) فجاءت على إثرها نظريّة (التناص)، ووجوه البديع، ومفاهيم الشعر، والشاعر، والأدبية، والشعريّة، والموقف من المعاني، والموضوعات.
والنقد إذ يواكب الإبداع منذ (العصر الجاهلي) إلى (العصر الحديث) تبدو في محطاته المضيئة نظريات لا يمكن تجاهلها كالقول بـ(الوحدة العضويّة) للقصيدة عند (الحاتمي)، ونظريّة (تراسل الحواس) عند (ابن الصيرفي).
والنقد لم يقف عند حد الشرح، أو التقويم؛ بل ظهرت رؤى وتصورات مخالفة لما عليه الأسلاف، ومن ثم عرف (نقد النقد) في التراث العربي، وهو - بحق - يجسد الصراع الفكريّ المبكر والمؤسس للجدل، والحجاج النقدي المؤصل للمعارف، والمحرر للمصطلحات. وهو مؤشر تعدد المدارس النقديّة، المرتبطة بالذوق، والانطباع الشخصيّ قبل ظهور النقد المعياريّ المتوسل بعلم الآلة كـ(النحو والصرف والبلاغة وعلم العروض ونظريّة النظم) وغيرها. فمن الكتب التي تمثل (نقد النقد) في التراث النقدي العربي كتاب (المثل السائر) لـ(ابن الأثير):
(فقد أحدث هذا الكتاب في عصره وبعد عصره موجة نقديّة واسعة، تمثلت في كتب كثيرة، منها المؤيّد، ومنها المعارض).18