حوار - محمد صالح الهلال:
عبد القادر مكاريا شاعر من الجزائر، يكتب الشعر عن قضايا الأمس واليوم معجوناً بقضايا أمته، لا يعرف أن يفكر بعيداً عنها، تشغله قضاياها؛ لذلك يصرخ بالحرف لعله يوقظ النائم. كتب ستة دواوين، هي: قصائد خزفية، أيتها الحمقاء، خيانة التراب، مرايا الشفاه، أحبك والنصف، صار لا شيء يدهشني.
* تقول في قصيدة «مكر الشفاه»:
الأمس علم جبهتي أن تنحني
والأمس أجل فرحتي لورائي
والأمس علمني اختصار مواجعي
والأمس لون صفوتي ونقائي
* هل الماضي موجع لهذه الدرجة؟ وأي ماضٍ تقصد؟ خاصًّا أم عامًّا؟
- لا أعتقد أن الماضي في حد ذاته هو المؤلم، وإن كان أسود. المؤلم هو الحنين إلى الماضي، كيفما كان سعيدًا أو شقيًّا. الإنسان محكوم إلى أمسه؛ فنحن في زمن الصورة والصوت والألوان نحنّ إلى زمن الأسود والأبيض والأفلام الصامتة لشارلي شابلن، ليس لأن الزمن كان أجمل، ولكن لأنه ماضٍ نعرفه. في المقابل نحشى الغد؛ لأننا نجهله. ماضي شخص أو ماضي أمة. لا فرق -وهو كأنه أمر فطري فينا- فنحن نحمل هموم الأمة ضمن حمل همنا الفردي الثقيل. ومن لا يحمل همّ أمته وأفراحها لا يستحق شرف الانتماء إليها، خاصة شرف الانتماء إلى أمة في مكانة أمتنا، بضخامة ماضيها وأثره فيما آل إليه العالم اليوم. فضمن الصيرورة التاريخية لهذا الكون، بكل مكوناته، لا أحد يمكنه إغفال فضل أمتنا في هذا التطور الذي عرفته البشرية ووصلت إليه؛ وربما هذا ما يزيد من ألم الواحد منا. فنحن دون إرادة منا نجد أنفسنا نقيم مقارنة ومحاكمة للواقع اليوم، ونتحسر. زد على ذلك الهم الخاص والعناء اليومي اللذين يراهما الإنسان بالفطرة، أو لضعفه وعجزه عن مجابهة الظروف الحياتية بكل تقلباتها. يرى ذلك نتيجة حتمية للهم العام، ووضع الأمة المشتت المتأخر. فإطلالة خفيفة على تاريخ هذه الأمة العظيم تجعلنا ندرك عمق السقوط الحر الذي دحرجنا من ثغر الشمس إلى هوة لا قرار لها.
* هل في داخل كل شاعر طفل صغير، وعندما يكبر تقل الكلمات أو تضيق؟
- داخل كل إنسان مهما كبر طفل لا يريد أن يكبر. والشاعر أولى أن يظل ذلك الطفل لاعتبارات عديدة، أولها كونه شاعرًا. يقول الدكتور محسن خضر:
...»وأنا هنا سأتحدث عن خصوصية معينة، ألا وهي خصوصية الرجل المبدع؛ لأن أهم سمات الطفولة القدرة على الدهشة وإطلاق الأسئلة؛ فيظل المبدع كاتباً كان أو فناناً تحركه هذه الطاقة الطفولية الخصبة على الاكتشاف والدهشة وطرح الأسئلة».
إضافة إلى ما قلناه سابقاً عن الحنين للأمس. ويزداد ذلك التشبث بالعهد الطفولي كلما تنامى الهاجس الحياتي الذي تفرضه متطلبات اليومي والعادي، وتنامي الوعي والمعرفة. فالإنسان كلما تعلم تألم، وكلما اتسعت مداركه ومعارفه كبرت فيه الرغبة في العودة إلى الطفولة بما كان فيها من قلة مدارك وانعدام مسؤولية. بالنسبة للشاعر مع تقدم العمر لا تضيق الكلمات؛ فالمسألة ليست مسألة كلمات. مفردة أرض هي نفسها في أي مرحلة عمرية، لكن يزداد ثقل الكلمات وإدراك أبعادها. صغارًا كنا نغني الوطن، كبارًا -الآن- نبكي الوطن. الشعور بمسؤوليتنا عما نكتب يتنامى مع العمر والتجربة. في سن العشرين -مثلاً- يكتب الشاعر غزلاً لامرأة دون الالتفات لأي اعتبارات. في الخمسين وفوقها يجد الشاعر نفسه يكتب لأمته ولجيل آت بعده يترصده، يكتب لبناته وأبنائه، لجاره، وحتى للغريب البعيد. أعتقد أن مجال الكتابة يصبح أوسع، وحِملها أثقل. في سن الخامسة قد يقول الطفل كلمة نابية وهو غير مسؤول عنها، في سن الخمسين يقول الكلمة نفسها وهو يدرك كل أبعادها ومعانيها ودلالاتها وإيحاءاتها. الكلمة لا تضيق ولا تقل. إدراكنا للكلمة هو ما ينمو فينا.
* لأي الأزمنة شعريًّا ينتمي عبدالقادر مكاريا؟
- كنتُ دومًا أرفض الانتماء، مع إدراكي أن اللاانتماء انتماء. الانتماء في اعتقادي يشبه الأسر. أنت تنتمي معناه أنت داخل حيز محدد، تضع نفسك فيه، أو يضعك الآخرون. وهنا يكمن الفرق. إن وضعت أنا نفسي داخل زمن شعري معين أظلم المتلقي القارئ، وأشده معي إلى أسري. وإن اختار لي الآخر زمناً شعرياً معيناً فهو قد ظلمني وظلم النص. ثم إن الانتماء الزمني لا يخص الشاعر بل يخص الشعر. والشعر ينتمي إلى كل الأزمان. قد يسهل تحديد الانتماء الزمني لقصيدة ما (ليس كل قصيدة طبعاً)، ولكن يصعب ذلك لشاعر أو للشعر. ميزة الشعر الكبرى هي هذا التماهي، هذا التعدد، يكتبه شاعر ويتلقاه مئات الشعراء باعتبار كل متلقٍّ لنص كاتباً له بطريقة أو غيرها. الشعر يصعب الإمساك به، كالماء، والاحتفاظ به داخل راحة يد. وحتى النقاد الذين يحددون الأزمنة الشعرية، ويصنفون الشعراء على أساسها، نجد الكثير من الغموض في تحليلاتهم. زد على ذلك أنا لا أملك حق تصنيف نفسي أو نصي. أنا أكتب النص أو يكتبني، أراه بمنظار، ثم ينتقل إلى مئات المناظير الأخرى. التنظير والتقعيد ليسا مهمتي، هما مهمة الآخر. وأرفض سلفاً أن يضعني داخل حيز زمني؛ فالأجدر ألا أضع نفسي فيه.
* لك قصيدة جميلة في سقوط بغداد.. في اعتقادك أي التواريخ أكثر تأثيراً علينا نحن العرب؟
وبغداد ظلت برغم التتار
ورغم الخيانات رغم البلاء
منارتنا للعبور الكبير
ونجمتنا ليل تُدجي السّماء
وكنا إذا ما العظيم اِدْلهمّ
وعزّ على ذلّنا الاحتماء
نفيء إلى ظلها للهناء
فتُوسِم أيامنا بالهناء
فنغرف من عزّها ما نشاء
وتستر من عيبنا ما تشاء
- بغداد جرح الأمة الذي سيظل فاغرًا فاه إلى الأبد، جرحها الذي انفتحت بعده كل جراحاتها القديمة، وانفجرت ألماً وندماً. منذ سقوطها الأول. هولاكو الذي جاءها على حصان، أو هولاكو الذي جاءها على دبابة، لا فرق، أو هو نفسه الهولاكو الفاشي. هولاكو هولاكو وبغداد بغداد. جُل هزائمنا الحديثة المؤثرة بدأت من هنا، من سقوط بغداد الأول. سقوطها الأخير، أو احتلال فلسطين (السكين المغروس في خاصرة الأمة). وكل ما تلا ذلك السقوط القاتل هو مجرد هزات ارتدادية. حتى سقوط الخلافة العثمانية يدخل ضمن هذه المتتالية. يؤرخ البعض بسقوط غرناطة. ولا أوافقهم في ذلك؛ فسقوطها كان نتيجة حتمية ومنطقية لصيرورة التاريخ؛ لأن الجسم يرفض ويرمي إلى خارجه الجسم الغريب عنه مهما كان ولو مفيدًا له. الطبيعة هكذا. ولو امتد مكوثنا بغرناطة ألف سنة أخرى كنا سنخرج منها مدحورين مهزومين.
* يقول الكاتب الراحل سعد الله ونوس «نحن محكومون بالأمل». كيف يمكن أن ننمي الأمل في جيل اليوم؟
- الأمل قنديل مضيء بالفطرة في الإنسان. الإنسان محكوم بالأمل لأن الحياة أمل.. ندرك أن الشمس ستشرق صباح الغد، وهذا أمل. ندرك في الليالي الحالكات أن القمر هناك خلف السحب يتحين فرصة اختلاس إطلالة علينا، وهذا أمل.
لا نحتاج إلى زراعة الأمل في جيل اليوم؛ فالأمل فيه؛ نحتاج كيف نعيد له الإيمان بما هو فيه. فتح أبواب اكتساب العلم على مصراعيه، ونصب أشرعة الحرية والمحبة. المحبة ضرورة.
جيل اليوم لا يشعر بأنه يمارس حياته، هناك من يمارس الوصاية المبالغ فيها عليه، سواء الدينية أو الأدبية أو السياسية، وحتى المعرفية. هناك من يقول لهذا الجيل نحن نعيش حياتك بدلاً منك، نفكر لك، ونقرر لك. شعوره بأننا نراه قاصراً، ولا نثق في قدراته واختياراته وإمكاناته، يهز ثقته فينا وفي نفسه، ويجعل شعلة الأمل الحياتية الفطرية تخبو قليلاً قليلاً. ويكون ذلك -مع الأسف- من البداية، من أول العمر، ومن سنوات الدراسة الأولى. ونحن جيل تمت ممارسة الكثير من الأبوة الطاغية عليه، وبكل أصنافها، حتى في قراءاتنا، كان يتم تحديد لنا ما نقرأ وما لا نقرأ، وبقرارات وشعارات سياسية، أو بمواقف ووصاية أدبية وأيديولوجية؛ وبالتالي ما دمنا جيلاً مورست عليه كل أنواع الوصاية والأبوة فإنه -ولاعتبارات إنسانية فطرية- يصعب علينا ألا نمارس على جيل اليوم ما تمت ممارسته علينا، وبأساليب أكثر تطوراً وقمعاً. لكن -كما قلت في أول الحديث- الأمل فطرة في البشر. وجيل اليوم يفهمه جيل اليوم بحكم اعتبارات عدة، عمرية وثقافية وحضارية.
والعالم قد أصبح قرية، وشبابنا يرى العالم الآخر بمنظاره هو. فقد يجب تحصينه من سنوات العمر والدراسة الأولى. وليتخلَّ الجيل القديم البالي للشباب الواعي بمسؤولياته جيداً وبكل الأبعاد الحضارية لأمته. كفانا وصاية مقيتة وأبوة طاغية على جيل لم يعش ظروفنا، ولم ينهل من هزائمنا. أعتقد أنه يجب إعادة النظر في المناهج الدراسية الأولى بكل أقطار الأمة.
* بم أنك عضو ببيت الشعر الجزائري.. هل بيوت الشعر في الوطن العربي على تواصل؟ وما هي الأنشطة التي يقدمها بيتكم؟
- بيت الشعر الجزائري جمعية وطنية حديثة التأسيس (2017) بفضل جهود وإصرار أدباء من كل جهات الوطن، يترأسها الشاعر سليمان جوادي، ولي شرف أن أكون أحد مؤسسيه وقيادييه خدمة للشعر والأدب والوطن. أول أنشطتها منتصف شهر مارس هذا بمناسبة عيد النصر واليوم العالمي للشعر، وسيكون مهرجان وملتقى «راهن الشعر الجزائري». وسيجمع شعراء ونقاداً وأعلام أدب وفكر من كل زوايا الوطن، ومن أجيال متنوعة، وكتابات متنوعة اللغة واللهجة والتوجهات أيضًا. ستكون الانطلاقة الفعلية لبيت الشعر الجزائري يوم عيد النصر تيمناً وتبركاً، وبعدها أكيد ستكون اتصالات ببيوت الشعر العربية وغير العربية. ولِمَ لا يتم تسطير برامج مشتركة وتبادلات.
* لو طلبنا منك وصف مدينتك شعرياً بشرط أن تكون حاضرة جغرافياً وإنسانياً، ماذا تقول؟
- يصعب ذلك؛ لأنني لا أنتمي. مدينتي وطن، ولا يمكن اختصار وطن في كلمات. مدينتي ينام البحر في كفيها، ويهدأ هديره. صقيعها حياة ورملها حضارة. إنسانها يقتات من تحدي المرارة. تداول على محاولة اغتصابها أمم وأمم من الوندال إلى الإغريق إلى الرومان إلى الإسبان إلى الفرنسيس. تعرف الشمس عظمة وبأس إنسانها، وتتنافس القارات على انتمائها.
* من يفسر حرب البسوس يسوس/ من يعلم أطفالنا آية الغبن والجبن/ يهضم كل الدروس/ يزرع الخوف في رحم الأمهات/ يضاجع في كل عرس عروس.. هل هي مشكلتنا الرئيسية؟ وإذا كانت، ما هي طريقة الخلاص منها؟
- الخلاص يكون بالتخلي عن عبادة الفرد. فقط. لا أعرف كيف ولا متى؛ لست عالم اجتماع. لكن الأكيد أن خلاصنا من مخالب التخلف يكون بما فعلت باقي الأمم. تماهي الفرد في الجماعة. نحن الشعب الوحيد -أقصد العرب- الذي يصنع من الفرد سلطاناً ثم يتذمر. أو على الأقل نسهل للفرد التسلط علينا وننقاد له. الأمم تتكلم بدساتير وقوانين، ونحن نتكلم بإفراد. فلان العظيم.. فلان الزعيم.. فلان الذي سيحرر القدس.. فلان الذي سيهزم إسرائيل..
بقية المقطع من القصيدة يقول: من يعلقنا بين شرنقة الجوع والصبر/ يجعل رغبتنا في العبور إلى وطن آخر/ أملاً في النفوس.
نحن أمة لا تريد أن تغادر طفولتها. كأننا نبحث عن متكأ يتحمل أوزار أخطائنا وهزائمنا وفشلنا. الخلاص يكون بالتأسيس لفكر جديد.
* اختر قصيدة من ديوانك «صار لا شيء يدهشني» وقدمها للقارئ.
- يصعب التفضيل والاختيار بين الأبناء، ولكني سأعض على أصابعي وأهدي القارئ من ديوان «صار لا شيء يدهشني» قصيدة «أنا»:
قادمٌ أبحث عن ذاتي، لِذاتي
لذّتي الظّل، وزادي كلماتي
كلّما أعبر في الرّمل، وأشدو
أتعرّى من ضياعي، وسباتي
كلّما تكبر في كفّي رُؤاه
تتمادى حاجتي في قهر ذاتي
بين بيْنين، وبيني، والأغاني
ألف باب من دوار، وانْفلات
أعبر القلب إلى القلب، وأبني
ساعة البوح ضريحاً لأناتي
مرّة أسكن في جُحر سؤالٍ
يتراماه، معي وهم الحياة
مرّة أطلع من مائي، وأبْني
بعبيري، مسرحا للذّكريات
فإذا غالبتُ في يومٍ حنـيني
غلبتْني ليله قـاع دواتـي
ومع الحاجة للشّمس ورأسي
ولبعض الملح في ريق لهاتي
أعبر الأيام وحدي، وإداري
ما يُدارى من شروقي وصفاتي
أمضغ الرّمل وأسقيه، فيشقى
بلُعابي، وبروحي، ورفاتي
وأكنّ الحبّ للعالم.. طرّا
من سحابٍ، وبحارٍ، وفلاة
ورفاقي، وصغاري، ويراعي
وحشيش الأرض، ماء القنوات
وعمـود الكهرباء المتعالي
والخطوط البيض فوق الطّرقات
والمباني، وإشارات التّروّي
والبراري، من أديم ونـبات
والأغاني، والنّدى، والفقر أيضًا
ورذاذ الغيث.. أبناء (الشتات)
أحمل الحبّ على كفّي، وإنّي
أحمل الثّـقل الذي في أدواتي
أنا بالشّعر، وللشّعر فحتّى
في كهوف النّوم أهذي كلماتي
يعبر النّاس على حلمي، وأبقى
أغزل الحلم.. وأشدوه لذاتي