كما اتضح سابقاً يوجد توجهان في الفكر، أحدهما مغلق يسمى «أيديولوجية» والآخر مفتوح ويسمى «منهج معرفي»، وكلاهما وجهان للنشاط الفكري الإنساني العام. وبين هذين الوجهين جرى ويجري صراع يصل إلى حد العنف. وذلك لأن الفكر يعبر عن موقف اجتماعي؛ فالأيديولوجية المغلقة توجه الفكر نحو القبول بالظلم؛ أما المنهج المعرفي فيوجه الفكر نحو التحرر من الظلم، وبالتالي لا يمكن القول إن «الفكر يخلو من العاطفة». القومية هي صلة عاطفية حسب القاموس؛ فهل تخلو من الفكر؟... استثارة الشعور القومي سلاح ذو حدّين؛ فالمتسلط يستخدم الاستثارة من أجل الهيمنة على قوم آخرين، والمسحوق يستخدم نفس تلك الاستثارة من أجل التحرر من هيمنة قوم آخرين. إذن عندما تستخدَم «القومية» كأداة في الصراع الاجتماعي القائم؛ تكف عن كونها مجرد صلة عاطفية!، وتصبح بالضرورة «توجه اجتماعي»؛ له أبعاده الفكرية ومنظريه.
يذكر القاموس أيضاً أن منشأ القومية هو: - الاشتراك في الوطن واللغة ووحدة التاريخ والأهداف. ولكن إذا تناولنا الأوطان كلها تاريخياً وحالياً، فهي لا تخص قومية بعينها، إلا من ناحية الأغلبية العددية وحسب. وتوجد في الوطن الواحد قوميات أخرى حتى لو كانت أقليات. أما التاريخ فكان وما زال استمراراً لتفاعل أقوام مختلفة مع بعضها البعض.
تاريخياً كانت الحضارات البشرية كلها تنتمي إلى الأرض وليس إلى «لغة» ما؛ فتوجد حضارة وادي الرافدين؛ أو الحضارة الفرعونية (المصرية)؛ أو الحضارة اليونانية؛ أو الفارسية (بلاد فارس)... الخ. وكانت كل حضارة تضم عدة أقوام ولغات، بل اندثر بعضها ونشأ وتفرع بعضها الآخر، فهل يجوز نسبة الحضارة إلى قوم بعينهم؟.
حينما نشأت العبودية كان لا بد من تصنيف البشر إلى أعراق (راقية)؛ وأخرى (وضيعة) لتبرير الاستعباد. كما استخدم ذلك التصنيف ضمن القومية الواحدة في بداية الأمر، لكي تكون السلطة وتوزيع المنتج الاجتماعي بيد عرق واحد. إذن شيوع مفاهيم مثل «الجنس الآري» أو «السامية» أو غيرها، مصدره الاستعباد.
بعد خروج النظام العبودي من نطاق الاستعباد في القومية الواحدة إلى استعباد قوميات أخرى، كان لا بد من تصنيف القوميات والأمم وحتى القبائل؛ إلى راقية ووضيعة. ولكن إذا كنت أنت من الأكثرية التي تناضل ضد الاضطهاد القومي؛ فلا يجوز لك ولا بأي حال من الأحوال أن تضطهد أقليات قاطنة في وطنك. وإن كنت من الأقليات فلا يجوز لك أيضاً أن تتعاون مع «الشيطان» لرفع الظلم.
** **
- د. عادل العلي