هدى مستور
جاء في المعجم «الهَيْبةُ: المَهابةُ، وهي الإِجلالُ والمَخافة».
منذ مراحل مبكرة من العمر يتلقى الطفل قيمة الهيبة، على المستوى الشعوري والفكري وكذلك على المستوى الحسي، وقد أدرجت الهيبة من أولويات قواعد وأسس التربية، تجاه كل ذي سلطة؛ كهيبة الأب والكبير ثم المعلم والنظام، لتتسع دائرة الإيحاء اللاواعي للهيبة لدى الإنسان فتشمل القانون والعلم والفتوى والجماعة ونظراً لقوة تأثير سلطة الهيبة حتى على الحشود الكبيرة، فقد انضم عنصر داعم آخر وهو: الكثرة أي كثرة الأتباع وتجمهرهم حوله، ودعمهم له، لا فرق بين أن يكن شخصاً مؤثراً وذا وزن وطول باع وقامة في علم بعينه أو حتى مجردًا من مؤهلات الهيبة.
وإن كانت الجموع قد اعتادت على الانقياد طواعية والتقبل بسهولة لكل فكرة أو رأي أو فتوى أو نظرية أو سلعة طالما تقف خلفها جهة محاطة بهالة الهيبة، فإن ذلك يعود لأن معايير صناعة الهيبة نفسها تستبدل بغيرها؛ فقيمة ذات وزن كالعلم والاختراع أو الدين الرصين، والفن الراقي نجده قد انحسر وتراجع أمام جحافل سلطة كالنفوذ أو قوة كقوة المال والتقنية، أو للنجاح في صناعة الوعي الجمعي السطحي الذي يسهل تمرير خدعة ما عليه من قبل صعلوك يجيد صناعة الإثارة أو الفكاهة؛ أو (مودل) فارغة يكفي أن تعلن عن فكرة أو سلعة بثقة وحزم، لتتلقاها الحشود بتقبل واتباع.
وفي كل الحالات وعلى الرغم من جميع المتغيرات إلا أن السيطرة الذهنية التي يمارسها شخص ما مستغلاً فيها هالة الشهرة التي يحظى بها هي لا تحدد إلى أي درجة من النجاح الذي أحرزه (المشهور) ومن يقف وراءه في استغلال هالة هيبته، بقدر ما تشي بدرجة التغييب الذي تصل ذروته المجتمعات البشرية في كل عصر ومصر؛ فحين خرج قارون في كامل أبهته وجاهه ووافر زينته قال المغيبون {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (79) سورة القصص.
إن السلطة الذهنية التي تخلقها الهيبة في النفوس، كما كانت سابقاً سبباً في اعتناق كثير من المبادئ والأعراف والعادات، هي نفسها اليوم التي تقف وراء نجاح كثير من الأشخاص (العاديين) في ضخ ادمان الاستهلاك لأفكار وسلع ومنتجات في نفوس الحشود، مقابل عوائد مالية ضخمة تضخ في أرصدتهم.
إن سلطة الهيبة تتخطى الأفراد لتشمل دول بأكملها؛ فدولة ذات هيبة تستمدها من رعايتها وخدمتها، لثقافة فكرية معينة، يمكنها استغلال هيبتها لفرض سيادتها على دول أخرى؛ تشترك معها في أصل الإيمان بالفكرة، يحدث ذلك طواعية واختياراً.
ولو افترضنا أن الهيبة- لاسيما في زمن الحضارة المادية الثقيلة- صناعة مادية، ولكننا لن نختلف في الإيمان بأنها تنتج قوة معنوية أعلى شأناً من القوى المادية. والمجتمعات تبني سمعتها الفريدة على أساسها أكثر مما تبني على القوة المادية. وتبقى هالة القيم الفريدة والأخلاق النبيلة، صامدة تلهم الجماهير وتغري الأجيال وتلهب الإعجاب وتثير إجلال سائر الشعوب.
أما هالة الهيبة المغشوشة فسيتضاءل توهجها أمام كبر الصغير ونضج تجربة الواعي، واكتمال عناصر المحاكمة العقلية السليمة.