الأحداث وقعت في بلدة (أنتلوب) النائمة بهدوء في ولاية (أوريغون) الأمريكيّة وذلك ما بين عامي 1981 و1986م.
آلاف التسجيلات القديمة، تتحدث بنفسها، عن أبرز ما حدث بين هذين العامين.
في «بريّة موحشة جدًّا» يراوح بنا المسلسل وعبر التسجلات الوثائقية بين زمنين، رؤية الشخصيات الأساسية في الثمانينيات، حين كانت لا تزال في عنفوان شبابها، ثمّ اليوم، حين شارفت على السبعين، تسترجع أبرز محطات حياتها ودورها في المشاركة في صناعة وترتيب قطع الأحداث لاكتمال الصورة النهائية للحلم الراجنيشي والمدينة الفاضلة، ثم الانتباه بعد تداعي الحلم وعودة تلك المدينة إلى سكانها.
لا يعد «بريّة موحشة جدًّا» سيرةً لباغوان شري راجنيش، ولا عرضاً لأفكاره الفلسفيّة ورؤيته للأديان والحياة. ولذا فليأذن لي القارئ أن أخرج عن المسار، وأتحرر من تتبع المساق الذي فرضه علينا مخرجا المسلسل الوثائقي، من خلال عرض مثير وعلى نحو يحبس الأنفاس لأحداث متلاحقة يرويها أبطال القصة أنفسهم، تبدأ من انضمام الفتاة الجموحة ذات السادسة عشر ربيعاً (ما أناند شيلا) إلى الطائفة ووقوعها في غرام زعيم الطائفة والذي يبدو أنه يقتنص الفتيات الجميلات والمفتونات به، يسند لها بثقة تامة أمر خدمته وإدارة أعماله، ونظراً لمضايقات الحكومة الهندية له وللتهرب من دفع الضرائب فقد أسند إليها الترتيب للهجرة الممنهجة من مقرّه في مدينة بونه غرب الهند إلى أطراف بلدة (أنتلوب)، تلك المدينة التي يقطنها أربعون فرداً فقط من المتقاعدين، المسيحين المتعصبين. مغامرةٌ ابتدأت بالادعاء بأنها هجرة لأغراض سلمية مستغلاً الدستور الأمريكي الذي يكفل حريّة المعتقد ويمنح التجمّعات الناشئة حقًّا بتأسيس مدينة.. ولكن يعقب ذلك أحداث تكشف عن جرائم إرهاب أدّت إلى تسميم سكّان منطقة كاملة بالسالمونيلا، وعن تحايل واسع النطاق على قوانين الهجرة، إضافةً إلى محاولات قتل وتخدير المشردين وتجسّس على أفراد المدينة.
سألقي الضوء هنا على رمز القصة، وكذلك سأعمد إلى تفكيك عدداً من المعطيات التي ساهمت في نجاحه -كأنموذج - في استقطاب الحشود وتحريكهم عبر فرض هيمنته الروحية عليهم.
المعلم الروحاني الهندي باغوان شري راجنيش (1931 – 1990).. الذي نجح في جذب أعداد هائلة من الأتباع يحجون له من شرق آسيا ومن كافة أصقاع أوروبا. ذلك الإعجاب الذي امتد حتى بعد وفاته وإلى الآن فقد حفظ أتباعه نصوصه ومحاضراته ولازالت كتبه تترجم إلى ما يزيد عن 50 لغة عالمية وهي -كما يبدو في الظاهر- أحد روافد ثروته الضخمة ودعم مؤسساته ومعاهده التأملية التي تحمل اسمه.
الرمز الصوفي، المجدد للديانات القديمة في خلطة حديثة مزجت بين الفلسفات الدينية القديمة وثقافة الحقوق الإنسانية الغربية الداعية لحرية الاستمتاع بعيداً عن قيود الأديان أو الأعراف.
فما المعطيات السحرية التي معها استحوذ باغوان على إعجاب الحشود وتمكن من فرض الهيمنة الروحية عليهم:
1 - في كل كلماته كان باغوان ينفي انتسابه لدين معين، إذ أفكاره جاءت تركيبة من إرث الفلسفة الصوفية والتعاليم الروحية وخليط من الأديان البوذية والزرادشتيه والهندوكية والمسيحية وهذا ما منحه مساحة واسعة من الحرية دون أن يتهم بالمخالفة أو التناقض أو المصادمة مع مؤسسة دينية بعينها فهو من الأصل أعلن عدم انتسابه لدين بعينه.
2 - أفكاره متجددة، مثيرة للدهشة، تدور حول الحكمة الإنسانية الخالدة والوعي الروحي؛ وفهم أسرار الحياة، والغوص داخل النفس الإنسانية، وهي أيضاً تعاليم غير متعصبة وليست متشددة إذ تسمح بالدعابة والمرح في جوٍّ من الانفتاح المنفلت والاستمتاع الصادم لكونه غير مشروط وهذا ما جذب له تحديداً الشباب الغربي الباحث عن معنى للحياة وفي الوقت نفسه لا يريد أن ينقطع عن متعها، لاسيما بعد أن سئم من ثقل الحضارة المدنية وغياب المعنى الوجودي للحياة في ظلها، وعقم تعاليم المذاهب المسيحية، يمثل هذا الجانب محاميه المفتون به سوامي بريم نيرن (فيليب توكلز).
3 - لقد جاءت تعاليم باغوان آنذاك لتسد حاجات نفسية ملحة؛ فهي أعادت الشعور بالقيمة الشخصية لأفراد يعيشون في مجتمع ضاغط، متعدد الثقافات، ويعانون من الاضطهاد العرقي، والديني، هذا فضلاً عن كونهم قد ضاقوا ذرعاً من تعاليم الديانات الوثنية البالية كالبراهيمية والزرادشتية الصارمة، والتوجيهات المكتوبة، ومواعظ التأنيب المكررة، والتنقص المستمر، والترغيب بالتقشف، والزهادة فجاءت تعاليم باغوان بمثابة الثورة ضد الموروثات الدينية، وكانت تثير الدهشة والإلهام في الوقت نفسه؛ حين كان المرح والدعابة والاحتفال من أبرز تعاليمه، وكثيراً ما كان حديث باغوان يدور حول استعارات لأفكار صوفية تدور حول الوحدة الكونية والحب الصوفي والنور الذي يضيء الكون وينير العتمة داخل النفس، وعن الارتقاء الروحي والوعي الذاتي، والسمو المطلق، وعن اكتشاف القوى الذاتية، والقدرات الروحية الكامنة، ويساعد طلابه على اكتشاف آفاق جديدة في النفس من خلال العودة للذات، واكتشاف الحياة من خلال دعوته للإبداع والمجازفة كما هو الانطباع وردود الفعل على نهجه الغريب.
4 - لم تكن مدرسته تعتمد على الجانب النظري وحده، والناس طبعوا على العجلة ونفاذ الصبر أمام مشكلاتهم، الجسدية والنفسية والاجتماعية والمالية وغيرها، إذ هم يريدون حلولاً سحرية وسريعة، لاسيما مع تزايد الضغوط الحياتية، ويمثل هذا الجانب شانتي بي (جاين ستورك).. بينما في مناهج باغوان إلى جانب المعرفة فهناك تمارين عملية، وممارسات تأملية، وعناية بالعلاج النفسي.
5 - فلسفته ثورية متمردة ضد المنظومات والشرائع في كافة الأديان فمن وصاياه المكررة والغريبة السماح للغرائز الجسدية بالانطلاق بحرية كاملة بحجة أن كبتها أو تنظيمها من خلال المؤسسة الزوجية مدعاة للعبودية للنظام ولاحتباس القوى الطاقية. وكذلك فإن جرأته غير المسبوقة في شن حملات شرسة على كافة الأديان بزعمه أنها تقيد قوى النور لدى الإنسان ودعوته إلى التمتع المطلق بمتع الحياة كالمال والجنس دونما قيد، هي ما جذبت له جموعاً غفيرة من التابعين سواء فئة الشباب المتحمس من الجنسين معاً، حين أباح لهم الانفلات الحسي بشرعنة الممارسات غير الأخلاقية، وولاء فئة أخرى ممن يحملون ضغائن وأحقاداً تجاه أديانهم بسبب ما أُلحق بهم من عقوبة وإقصاء جراء عصيانهم ومخالفاتهم لتعاليم أديان أقوامهم.
6 - تمتعه بكاريزما جاذبة: فالمعلم الأول الذي نجح في كسب الولاء التام من قبل مريديه، والخضوع الأعمى، والانقياد الطوعي جمع فيها بين حضور غامض وإطلالات ذات هالة (فاخرة) ينطق بصوت متهدج بكلمات منتقاة بسيطة وهادئة ومدروسة، مصحوبة بابتسامة ناعمة وذات مغزى، نظرات ثاقبة تحمل أسراراً غائرة ووجه ذو بشرة نضرة لم تحترق تحت لهيب شمس الهند ولحية بيضاء طويلة، ويدان معقودتان لأداء التحية للجماهير الغفيرة المفتونة يهزهما ابتهاجاً بالحضور الصاخب.
7 - انخراط الفرد داخل العقلية الجمعية، من خلال مشاركته معهم عبر تعاليم تتضمن طقوس (صوفية) تحوي رقص وحركات أدائية وتأملات مصحوبة بتنفس عميق يحدث أحياناً بإيقاع موسيقي صاخب وطبل وصراخ، وعويل وضرب ورفس، هذا فضلاً عن الالتزام بوصايا أخرى تتعلق بنمط الحياة سواء نوع الطعام ولون اللباس الموحد والقلائد والخرزات المعلقة على صدورهم، وتكليفهم أحياناً بمهام حقيرة لاختبار قدراتهم على التحرر من السلطة الأنوية، هذا فضلاً عن إقامة مهرجانات جماعية بقصد الانتشاء والاستمتاع والتحرر من الطاقات المحبوسة، كل لك من شأنه أن يغيب عقل الفرد في نقد تعليماتهم والخروج عليها يبدو ذلك واضحاً من تعجب ودهشة شانتي بي (جاين ستورك) في موافقتها الفورية على القيام بعملية قتل انصياعاً لأمر شيلا دون تردد!. ومع هذا النوع من التغييب الجمعي للعقول يتوهم الأتباع جهلاً بالتميز عن غيرهم ببلوغ الحقيقة التي ألهمهم إياها معلمهم باغوان.
8 - اعتماده على الحدس في اختيار المقربين والأعوان المخلصين: قوة الشخصية ورباطة الجأش والدهاء المفرط والشجاعة غير المعهودة، وكثيراً من الاحتيال.. سمات في الشخصيات التي قد يتردد في إسناد المهام الصعبة لهم ما لم يضمن الولاء التام له، والخضوع الكامل له، واستعباده بالحب الأعمى؛ ولذا لا نعجب من كون المحيطات والمقربات من أوشو هن مجموعة من الفتيات المتعصبات له، تترأسهن سكرتيرته العاشقة شيلا. فقد نجحت (شيلا) وبتمويل منه من شراء أرض شاسعة لتكون نواة لمدينتهم الفاضلة، ونجحت مع فريقها المكون من عاملين ومهندسين وأطباء من شق القنوات وإنشاء الوحدات السكنية على نحو مثير للدهشة، فتحولت الأودية القاحلة إلى مدينة حقيقيّة، بمزارع، وكهرباء، ومطاعم، ومتاجر، ومصارف، ومركز شرطة وحتى مطار!. وهذا ما يثير التساؤل حول حجم ثروة باغوان ومصادر دخله!.
ولأن الباطل وإن انتفش واستطال زمناً، إلا أنه يبقى هشاً لا أساس له. فإن معلماً بحجم (باغوان) مهما بلغ من تحفظ وحنكة ودهاء، فإن غلطة منه كلفته كثيراً؛ فقد تداعي حلمه بتأسيس مدينة فاضلة وتوسيع مملكته في عقر أقوى دولة في العالم. فأكثر دولة يمكن لأعلامها القوي من فضح الجرائم وإعلان المخالفات الأخلاقية، بمجرد ما أن اظهر ميلاً تجاه نساء أخريات، فإن شيلا التي تصدرت الإعلام الأمريكي واشتهرت بسلاطة لسانها وجرأة تصريحاتها وتنمر تهديداتها لمن يتعرض لأتباع سيدها باغوان بسوء، في حين كان سيدها لائذاً بالصمت الأخ تياري في بيته الفاخر. وفي سبيل حلم باغوان اقترفت جرائم وحماقات كثيرة!. هي نفسها من أشعلت النيران في جسور العودة حين أعلنت تمردها عليه وخروجها عن تعاليمه وتمكنت من الفرار من المدينة التي قاتلت لأجلها!.
وعبر إحدى أشهر وسائل الإعلام الأمريكية تمت مواجهة شيلا بمعلمها الذي أغرمت به وخدمته زمناً طويلاً، ليتبادلا الاتهامات، ويتقاذفا التهم، لتكشف شيلا عن جانبه المظلم حين أعلنت أمام أنظار العالم أنه كان مخادعاً ومستغلاً؛ لاشك أن تلك التهم، كشفت عن جانب من الحياة السرية للمعلّم الهندي الذي اضطر في أواخر سنوات حياته إلى التخلّي عن اسمه، وتلقيب نفسه بـ«أوشو» (أي المعلّم باللغة اليابانيّة).. ولكن يبقى «العظيم» هو من يعجز أعداءه عن إدانته. ويبقى «الحكيم» و»المعلم» هو من تصدق حياته السرية تعاليمه.