اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
يكفي الصلح شرفًا وقدسية أن الله وصفه بأنه خير، وإصلاح ذات البين يعد من الثوابت الدينية والدنيوية التي تهدف إلى زرع المودة والألفة بين الناس، ونزع فتيل كل ما يُنغّص ذلك من الخلافات والخصومات، وإحلال الوئام والانسجام محل الخلاف والخصام بفضل تقوية روابط التآلف والتكاتف والقضاء على أسباب الفرقة والتخالف.
والنفس البشرية رغم أنها مجبولة على حب الذات والشح فإن نوازع الخير فيها تغلب نوازع الشر، والإِنسان حريص على حقوقه، لكن متى ما تغلبت لديه صفة الإيثار على الأثرة تنازل عن بعض هذه الحقوق نتيجة لطغيان الخير على الشر، مما يتطلب من الساعي إلى إصلاح ذات البين أن يوطّن نفسه على التعامل مع المجني عليهم بأناة وطول صبر على النحو الذي يدفعهم إلى التسامح عن طريق تحريك المشاعر الدينية، واستثارة مكامن القيم الأخلاقية والإِنسانية فيهم مع الاعتراف بما لهم من حقوق ومواجهتهم بما عليهم من استحقاقات وقد قال الشاعر:
تسامح ولا تستوفِ حقك كله
وأبق فلم يستقصِ قط كريم
وعلى هذا الأساس فإن الذي يتجه إلى الصلح ويسبق إليه هو الذي ينتصر على هوى النفس ويمسك بزمامها للتغلب على نزعتها إلى الثأر والانتقام، حيث إنه إذا ما قوبلت الإساءة بإساءة أخرى، فلن تنتهي الإساءات، والإساءة تضع مرتكبها في مرتبة دون خصمه، والداعي إلى الثأر والانتقام يضع نفسه في مرتبة البادئ بالإساءة، والصفح يضع المتسامح فوق منزلة الأول والثاني.
وإصلاح ذات البين من الأمور التي تدعو إليها الدولة وتشجع على القيام بها، فضلاً عن أنها متاحة لمن يجد في نفسه القدرة على تحمل تبعاتها، وعادة ما يقوم بها خيار الناس وأشرافهم من العلماء والأسخياء وأصحاب الجاه، وذلك بشكل طوعي، كما تشكل الدولة لجانًا عن طريق إمارات المناطق ووزارة العدل حيث يتم تكليف هذه اللجان بتولى مهام إصلاح ذات البين بطريقة رسمية، وهذه اللجان على دراية بأن هذا التكليف يعد مسؤولية يصعب الاضطلاع بها ما لم يكن المكلف مؤهلاً لذلك، لكون إصلاح ذات البين يتعلق بحالات على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية، يستدعي النجاح فيها بذل جهودًا استثنائية، يتم بموجبها إيجاد الائتلاف بدلاً من الخلاف واستبدال الخصام بالوئام بفضل قطع دابر المنازعات والعداوات، وخلق بيئة تليق بالكرام الذين يجدون في لذة العفو والتسامح ما يدفعهم إلى الترفع عن طلب الثأر والانتقام.
ولجان إصلاح ذات البين تحرص دائمًا على أن تكون فاعلة في أداء مهامها، وإنجاز ما هو مطلوب منها ضمن حدود الأنظمة والتعليمات المعطاة لها من قبل الجهة التي كلفتها بالإصلاح، كما أنها عادة ما تبادر بمبادرات ذات قيمة تسهم من خلالها في الوصول إلى الغاية المطلوبة بما يحقق العفو والتسامح عن طريق إتباع النهج الصحيح للإصلاح الذي يؤدي إلى شفاء غليل المجني عليه، ويجعله أكثر استجابة لمساعي الصلح، إِذ إن المجني عليه يحتاج إلى المصلح الناصح الناضج الذي يجد في قوله وفعله ما يشفي غليله ويذهب غيظه ويستل السخائم من نفسه، بعيدًا عن الممارسات الذميمة والتصرفات غير السوية التي تزيد مهمة الإصلاح تعقيدًا وتنأى بها عن جادة الصواب.
والواقع أن لجان إصلاح ذات البين لها إنجازات غير منكورة وذات جهود مشكورة، ولإبراز هذه الجهود لا غنى عن توضيح آلية عمل هذه اللجان وتحديد مرجعيتها واختصاصاتها مع تعميم وجودها داخل المناطق من أجل توسيع نطاق نشاطاتها، بما يضمن زيادة فاعليتها ومضاعفة أنشطتها وتوعية المواطنين بشأن طبيعة عملها، والدور المطلوب منها، وذلك ضمن إطار الحدود والقيود التي توازن بين الحالات المطلوب إعلانها وتلك التي يلزم التكتم عليها، وفقًا لسياسة الإصلاح وخصوصيات المتصالحين.
ونظرًا لأن لجان الإصلاح تمارس عملاً يغلب عليه الطابع الإِنساني وله أبعاد تتعلق بالسلم المجتمعي فإن ذلك بقدر ما يفرض عليها مراعاة العدل والإنصاف وإحقاق الحق، بقدر ما يتطلب منها الحرص على وقاية المجتمع وحمايته ضد عدوى النزاعات والفتن في الوقت الذي تعالج فيه حالات فردية يعاني أصحابها من أعراض مرضية ومشكلات اجتماعية، الأمر الذي يستدعي تعزيز هذه اللجان بالمؤهلين في مختلف الاختصاصات الشرعية والقانونية والنفسية والأمنية، إضافة إلى تزويدها بأهل الخبرة الذين يتوفر لديهم معرفة ودراية بالأعراف المرعية والعادات والتقاليد الاجتماعية بغية الوصول إلى صلح يتفق مع الشريعة الإسلامية وله صبغة قانونية وهوية اجتماعية.
وقمين بلجان الإصلاح أن تدعم عملها عبر مراجعها بتوعية إعلامية ذات سمة تثقيفية تتخذ من الانتماء الوطني والحس الأمني والوعي الاجتماعي قاعدة تنطلق منها عند التعامل مع حالات الإصلاح، خاصة تلك الحالات التي يتمخض عنها نتائج نافعة ولها صفة جامعة، مما ينحو بالإصلاح منحىً ينتقل به من المفهوم الضيق والحالة الفردية إلى مفهوم أوسع وحالة أشمل على نحو ينعكس مردوده الإيجابي على المجتمع من خلال إمارة المناطق ولجانها المختلفة.
والجهات الحكومية المسؤولة تعلم علم اليقين أنه من أجل أن تعم الفائدة من لجان الإصلاح بشكل تتجاوز معه أطراف الصلح إلى غيرهم لا مندوحة من التعاون المشترك والتنسيق المتبادل بين إمارات المناطق من جهة وبين المؤسسات الاجتماعية والجهات الحكومية ذات الاختصاص المماثل من جهة أخرى، كما ينطبق ذلك على تبادل الخبرات والمعلومات بين جهات الاختصاص، وكل ما يخدم تعميم الاستفادة واتساع نطاقها بفضل توسيع دائرة التوعية ونشر ثقافة الفضائل التي يبنى عليها الصلح كالعفو والتسامح والصبر والحلم.
وحتى يكون عضو لجنة الإصلاح مؤثرًا في الآخرين ولديه القدرة على إقناعهم خليق به أن يكون من المشهود لهم بالدين والعقل والعدل والمعرفة، وأن يكون قدوة فيما يدعو إليه من العفو والتسامح والحلم والجود والصبر والإيثار، نائيًا بنفسه عن المعائب والمثالب التي تتعارض مع مسعاه الحميد.
والذي يسعى بالإصلاح عادة ما يكون مسعاه مشروعًا وعمله الخيري معروفًا علاوة على الاستعانة بالأتقياء من علماء الدين وأهل المروءات مع بذل كل ما يؤدي إلى نجاح مسعاه، مبتعدًا عن الممارسات الخاطئة بما في ذلك التكسب على حساب السعي بالإصلاح وحب المظاهر، كما يحرص على تجنب أي تصرف له تأثير سلبي يحول دون بلوغ هدفه الذي يسعى من أجل بلوغه.
والمأمول هو أن تتمكن اللجان المكلفة بالإصلاح من قبل الدولة من النجاح في مهامها في مجال الصلح وبالتالي قطع الطريق على بعض المتطفلين على هذا المسعى الخيّر من ضعاف النفوس الذين اتخذوا من الصلح سبيلاً للتكسب والارتزاق إلى الحد الذي ترتب عليه ما يعانيه المجتمع الآن من المغالاة في طلب عوض التنازل والديات نتيجة لدخول هؤلاء المتاجرين بالدماء على الخط والإفساد باسم الإصلاح وتحت غطائه.
وظاهرة التكسب وقدرة أصحابها على التسويق لها باسم الصلح وموقف أصحاب الحاجة منها، كل ذلك جعل الصح المعروف في حكم المهجور في حين أن الخطأ المألوف صار هو المأثور كما هو الحال بالنسبة للمكلفين بالإصلاح من قبل الدولة والمتطفلين عليه، مما يتطلب من الجهات المسؤولة ممثلة في لجانها المكلفة بإصلاح ذات البين أن تقوم بما ينبغي عليها القيام به بصورة تكشف الممارسات المشبوهة بهدف القضاء على ظاهرة الارتزاق والمحافظة على حقوق الناس من عبث الانتهازيين المنتفعين.