د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ليون الإفريقي في وصفه إفريقيا ذكر أنه مرَّ بناحية جزولة من بلاد المغرب في الأطلس الصغير، وقد وصف أحوال أهلها وطريقة معيشتهم، فكان وصفًا لحياة غير مألوفة، أو مماثلة لغيرها من تلك البلاد في تلك النواحي الجميلة، وكان ذلك عام 920 ميلاديًّا، وذكر أن تلك الناحية تكثر فيها المعادن، مثل الحديد والنحاس، وأن أصحاب تلك الجهة يحملون النحاس إلى البلاد المختلفة؛ ليأخذوا بدلاً منه الثياب والتوابل والخيول وسائر ما يحتاجون إليه من الأشياء الضرورية. وذكر أن تلك الناحية ليس فيها مدينة ولا قصور، وإنما عدد من القرى المتناثرة هنا وهناك.
يُذكر أن سكان تلك البلاد لا سلطان لهم؛ إذ يحكمون أنفسهم بأنفسهم، حتى أنهم يكونون منقسمين ومتحاربين في غالب الأحيان، ولا تطول هدنتهم أكثر من ثلاثة أيام في الأسبوع؛ ولهذا تجدهم منقسمين ومتحاربين أكثر أوقاتهم، وفي خلال فترة الهدنة يمكن للخصوم أن يتاجروا فيما بينهم، وأن ينتقلوا من جهة إلى أخرى، لكنهم في غير أوقات الهدنة يتقاتلون كالوحوش، حسب وصفه.
سأتوقف عند هذا؛ لأقول إن سائر بلاد الدنيا لا تستقيم دون حاكم، وإلا كان القتال هو الأصل والشريعة. ومهما كان المعتقد الذي يؤمن به المرء إذا لم يدرك مراميه النبيلة، التي ترمي إلى العدل وإرساء المحبة والتسامح وطيب المعشر، وغيرها من مكارم الأخلاق، فإن القتال سيكون هو السائد. والعجيب أنك تكاد ترى مثل هذا الوصف لقوم يعيشون في زماننا، كما هي الحال في بعض البلاد العربية والإسلامية، التي ابتُليت بالمجرمين والضالين من حملة الفكر الظلامي، أو تلك التي أُصيبت بالنزاعات القبلية والعنصرية في بعض بلاد إفريقيا وغيرها. والحقيقة إنه لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم.. عندما ينفلت الأمن من عقاله فإن السيطرة على مقاليد الأمور تكون بعيدة المنال، ولا يكون للحكمة والعقل مجال، والفتاوى الظلامية والمبررات تكون متاحة في العقول الانتهازية؛ لتقود الناس إلى الاقـتتال، فلا رادع طالما أن الفتوى والمبرر حاضران. وكم من شباب وشيب قد سيقوا إلى المهالك بسبب تلك الأفكار الغربية العجيبة.
يستمر ليون الإفريقي في وصف أحوال تلك البلاد التي مرّ بها، فيذكر أنهم يلبسون قمصانًا قصيرة من الصوف دون أكمام، ضيقة ملتصقة بأجسامهم. كما يذكر أن في بلادهم سوقًا يستمر مدة شهرين، يُقدَّم فيها الطعام إلى كل وافد من بلاد أخرى حتى لو بلغ عددهم عشرة آلاف. وأقول: إن مثل هذا العقل يدل على كرمهم المجبولين عليه، والمتوارث لأجيال متعاقبة.
كما يذكر أنه عند قرب بداية السوق تعقد هدنة، يتوقف فيها الاقتتال، ويختار رئيس كل جماعة قائدًا ومائة من الرجال للقيام بالحراسة والمحافظة على الأمن في السوق، ويقوم هذا الجيش المؤقت بالحراسة، ويعاقب الجناة بحسب أهمية جرائمهم، ويُقتل السارقون على الفور، وتُترك أشلاؤهم للكلاب.
يُعقد هذا السوق في سهل بين جبلين، ويضع التجار بضائعهم في خيام أو أكواخ صغيرة من أغصان الأشجار، ويجتمعون بحسب أصناف بضائعهم، كل صنف على حدة؛ فتجد هنا تجار النسيج، وهناك تجار الأقمشة والخردوات، وهكذا.. أما تجار الماشية فيكونون خارج الخيام، وبجانب كل خيمة كوخ من الشجر، وفيها يقيم الأعيان، ويقدَّم الطعام للغرباء. ورغم النفقات الكثيرة التي ينفقها أهل السوق فإن بيع البضائع يرد عليهم مبالغ النفقات مضاعفة مرتين؛ لأن جميع سكان تلك الناحية وتجارًا من إفريقيا يشاركون في السوق.
ويتساءل ليون الإفريقي: كيف لهؤلاء القوم ذوي العقول البدائية - كما يزعم - أن يعرفوا بحق كيف ينظمون بطريقة عجيبة سوقهم من ناحية الطمأنينة والأمن؟ كما يذكر أن السوق في كل عام مع بداية المولد النبوي الشريف - وأقول نقلاً عن هوامش الكتاب ببعض المصادر العربية - يسوده الهدوء، ويعتقدون أن الهدوء الذي يسود السوق يعتبر من كرامات أحد الأولياء لخوفهم من انتهاك الحرمة مما يعجل في العقوبة.
والأولى الخوف من عقوبة الله بدلاً من الخوف من عقوبة الولي الصالح!
حقيقة، إنه من المستغرب حقًّا أن يستطيع هؤلاء القوم أن يرتبوا سوقهم، وأمنهم، ويكونوا في قتال مستمر بعده حتى يحل مرة أخرى، مع أنهم مسلمون، ومع أن دينهم ينهاهم عن ذلك.. وكيف لتلك العقول البشرية المبدعة لهذا الأسلوب من التسويق والأمن أن تعجز عن وقف الاقتتال فيما سواه من الأيام؟ إنها من عجائب التصرفات البشرية عبر الدهور.