د. شيرين بنت عبد الرحمن العوفي
كان عمر طفلي الأول ثلاث سنوات حينما قررنا نحن الوالدين إلحاقه في الروضة، فذهبنا إلى أقرب روضة من المنزل، واتجهت مع طفلي نحو الإدارة للاستفسار عن التسجيل والبرنامج والرسوم، ثم قمنا بجولة في فناء الروضة فانبهر طفلي بالألعاب الخارجية واتجه مسرعًا نحو لعبة التزحلق وعندما صعد السلم كان يتبعه طفل عمره مقارب لعمر طفلي دفعه بقوة من الخلف نحو التزحلق، ويبدو أن طفلي لم يستجب وما هي إلا ثوانٍ والتفتُّ لصراخ وبكاء حاد كان مصدره طفلي الذي أمسك بذراعه متألمًا باكيًا، مشيرًا إلى الطفل الذي آلمه، وكانت المفاجأة عندما كشفت قميص طفلي لأجد طقم أسنان صغيرة قد تركت أثارًا على ذراعه بشكل دموي، وبشكل مأساوي أنهت العضة زيارتنا الأولى والأخيرة للروضة.
بعد تلك الزيارة طرأ في خاطري سؤال ملح لمعرفة الأسباب الجوهرية التي تجعل الأطفال الصغار يعضون؟ ولماذا تكون بتلك القسوة؟ وبعد البحث في الأدبيات والدراسات التربوية في مرحلة الطفولة المبكرة وجدت أن سلوك العض يعد أحد المظاهر الطبيعية المصاحبة لنمو الطفل الصغير، بل يعد سلوكًا تلقائيًا وغريزيًا مقبولاً حتى عمر السنتين، وعندما يكبر الطفل وينمو في الجوانب الجسمية، والاجتماعية، والانفعالية، والمعرفية، عندئذ يصبح الطفل أكثر قدرة على التعبير اللغوي والتعبير عن المشاعر وحل المشكلات، وحينها يصبح العض لدى الأطفال الأكبر سنًا (أكبر من سنتين) سلوكًا غير مقبول ومزعجًا بل في أغلب الأحيان يصبح ضارًا وهذا ما حدث لطفلي!!
فلكل طفل طريقته الخاصة في الاستجابة لما يدور من حوله، وسلوك العض هو إحدى تلك الاستجابات، لكن لماذا يعض بعض الأطفال؟ ومتى يكون العض سلوكًا طبيعيًا وغريزيًا؟ ومتى يكون سلوكًا غير مقبول ومزعجًا؟ إن الطفل الصغير (من الميلاد حتى سنتين تقريبًا) يعض لعدة أسباب أبرزها: التعبير عن رغبة أو حاجة كالجوع أو التعب، وتلبية الحاجة إلى التحفيز عن طريق الفم، وتجربة شعور العض، وتخفيف ألم التسنين، وقد يستكشف السبب والتأثير («ماذا يحدث عندما أقضم؟»)، كذلك تقليد من حوله من الأطفال، وأيضًا الشعور بالقوة والسيطرة وجذب الانتباه (خاصة إذا أتبعه تعزيز للسلوك)، والدفاع عن النفس، وقد يكون للتواصل مع الآخرين أو التعبير عن المشاعر الصعبة، مثل الإحباط أو الغضب أو الارتباك أو الخوف («يوجد الكثير من الناس وأنا أشعر بالضيق»)، في مقابل هذا وذاك كيف يمكن أن يتصرف الوالدان أو المربون المحيطون بالطفل الذي يعض؟، بادئ ذي بدء يقال: إن الوقاية خير من ألف علاج لذا علي أنا كمربٍ أن أتأكد من توفر إجابات الأسئلة الوقائية التالية:
- هل سلوك العض يتناسب مع خصائص عمر طفلي وقدراته الحالية؟
- هل توجد مواد أدوات خاصة بالتسنين مثل العضاضة أو فوطة ناعمة ونظيفة لتساعد طفلي على تعلم ما يمكنه عضه بأمان دون إيذاء نفسه أو أي شخص آخر؟
- هل جدول طفلي وبرنامجه اليومي والانتقال بين كل فترة من فترات برنامجه اليومي ثابتة؟ كوجبة الطعام وأوقات اللعب والنوم، بحيث يستطيع طفلي التنبؤ بما سيحدث لاحقًا؟
- هل يمارس طفلي أنشطة ومواد تساعده على الاسترخاء وإطلاق التوتر كالتنفس العميق، واللعب بالعجين، وفقاعات الصابون.. وغيرها من العناصر التي تقلل الإجهاد؟
- هل توجيهي أنا المربي توجيه إيجابي يسهم في تطوير الضبط الداخلي لطفلي، ويساعد طفلي على التعبير عن مشاعره باستخدام ألفاظ لغوية، كتوجيهات بصوت لطيف مصاغ بما هو متوقع من سلوك طفلي؟ كالعبارات التوجيهية التالية: (تأكد من غسل يديك قبل تناول الطعام)، (يبدو أنك غاضب لأن أختك لعبت بلعبتك، ماذا تريد أن تقول لها؟).
وماذا لو شهدت موقفًا بين طفلين (أحدهما عض الآخر)؟..اتجه بسرعة إلى الطفلين وأنزل إلى مستواهما، وأنظر إلى عيني الطفل الذي قام بالعض، وأتحدث معه في نغمة جادة وحازمة، وأدلي ببيان واضح: «إن العض مؤلم وغير مسموح به، ولا أستطيع أن أسمح لك بإيذاء (صديقك/ أخيك) أو أي شخص آخر». بعد ذلك أقدم للطفل خيارًا: «يمكنك الجلوس هنا بهدوء حتى أستطيع التحدث معك، أو المساعدة في جعل (صديقك/ أخيك) يشعر بتحسن». وأساعد الطفل على متابعة التوجيه الاختياري، ثم ألتفت إلى الطفل المصاب وأحاول تقديم المساعدة، والإسعافات الأولية إن لزم الأمر، مع التعبير عن المشاعر التي يشعر بها من خلال الكلمات والأفعال: «أنا آسف لأنك تتألم، أيناسبك وضع بعض قطع الثلج لتخفيف الألم؟»، وإذا أبدى الطفل القدرة الكافية لتخفيف حدة الموقف أو معالجته فبإمكانه مساعدة الطفل الذي تعرض للأذى وتقديم الاعتذار اللازم بعد الحوار والمناقشة.
إنني أتساءل: ماذا لو أصبح العض عادة لدى طفلي؟ حينها فإن حالة الإرشاد والتوجيه الإيجابي الاعتيادي ستكون غير فعالة، وهو بحاجة إلى تدخل من معالج سلوكي ومختص نفسي في مرحلة الطفولة وفق خطة علاجية مع التحلي بالصبر وبمساعدة الوالدين والمربين والأهل لنوع الحالة وشدتها.
وفي نهاية المطاف لعل ما سبق طرحه يلقي الضوء عن (لماذا يعض بعض الأطفال الصغار؟)، ومتى يكون سلوكًا مقبولاً، وسبل الوقاية لتجنبه كعادة، وكيفية الاستجابة لمثل هذا السلوك المزعج وحتى مع الكتابة عنه لا يخلو الإحساس بالألم?