د. محمد بن إبراهيم الملحم
لكي نتمكن من قياس الأداء «النوعي» للتعليم فلا بد أن يكون لدينا عاملان: الأول هو التركيز في موضوع القياس ليتسنى قياس المؤشرات الداخلية ضمن العملية التعليمية والثاني هو توازي التطوير التعليمي مع خطط وطنية تتبنى التكامل مع التعليم وسأشرح تفصيل ذلك مستقبلاً، لأركز اليوم على القياس المركز الذي يكون على مستويين: قياس الكفاءة النوعية داخليًا، وقياس كفاءة النواتج خارجيًا. وسأتحدث اليوم عن الأول لأقول إن مصطلح الكفاءة الداخلية هنا يختلف عن ذلك المعتاد في أدبيات الإدارة الذي يعبر عن كفاءة النظام الإداري في تحقيق الحد الأدنى من متطلبات العمل مثل: عدد المعاملات اليومية ونسبة الموظفين المواظبين على الدوام ونسبة المحافظة على الموارد المالية الخ، إن الكفاءة الداخلية التي أشير إليها هي الكفاءة «النوعية» للعمل فهي تتناول نفس موضوعات الكفاءة الداخلية التقليدية «الكمية» ولكنها تبحث في جدواها وقيمتها لإحداث فرق ذي معنى لتحقيق رسالة المنظمة، فمثلاً عندما تقتضي الكفاءة الداخلية التقليدية أن عدد اجتماعات مجلس الإدارة سنويًا لا يقل عن ستة ليعكس ذلك الأهمية الاستراتيجية لها في التغيير فإن الكفاءة الداخلية النوعية ستتناول جودة أداء هذه الاجتماعات بأسئلة مثل: كم عدد القرارات التشاركية في هذه الاجتماعات؟ ما نسبة رضا المجتمعين عن أداء هذه الاجتماعات؟ كم المدة المستغرقة لاتخاذ القرار؟ ما المدة الفعلية لكل موضوع مقابل المقررة؟ ما نسبة الحضور؟ ما نسبة المشاركة في مقررات الاجتماع؟ ما مدى الفاقد من الاجتماع (نقض قرارات سابقة ومناقشتها، أو ضياع وقت في التفسير لضعف جودة التقارير) وهكذا تمضي الأسئلة النوعية في نبش المستور من الأداءات التفصيلية التي بدونها ستكون أرقام الكفاءة الداخلية التقليدية «الكمية» مضللة فهي مثلاً قد تقول تم عقد أكثر من الستة اجتماعات المطلوبة بأداء 120 في المائة وتوصف (تجاوزًا) بأنها «تكللت بالنجاح» بينما لا نعلم عن إنتاجيتها! وبنفس الطريقة يمكنك تخيل عشرات المؤشرات الكمية التي تتحفنا بها التقارير لتقول أنجزت المؤسسة مائة ألف معاملة واستقبلت خمسمائة ألف مراجع ولا نعلم كم معاملة بها أخطاء فادحة، وكم مراجعًا تكررت مراجعته لعدم حل مشكلته!
الكفاءة الداخلية النوعية لا يمكنها تتبع كل شيء فهذا مرهق ومكلف جدًا ولكنها جديرة بأن تصمم للعمليات ذات التكلفة المالية العالية كالمشاريع التحويلية أو ذات الطبيعة التأثيرية الكبيرة (اجتماع مجلس الإدارة كمثال كما تقدم) وهي بهذا الاعتبار تغطي أغلب العمليات الإدارية المهمة للتعليم وبعض المؤشرات التربوية ذات الدلالة القوية، فمثلاً تقدم نتائج الاختبارات المقننة دليلاً على كفاءة داخلية نوعية للعملية التدريسية، كما تفحص كفاءة الأداء من خلال الملاحظة المباشرة داخل الفصل. لقد أشرت إلى أن نجاح وكفاءة قياس الأداء النوعي للتعليم يتطلب عامل «التركيز» ليتسنى تتبع القياس على مدى قابل للتفاعل والحضور ونقصد به أن يكون لدى الجهة التعليمية أهداف بعينها تمثل مشكلة حقيقية للتعليم ويعد إصلاحها خطوة ذات أثر فعال، فمثلاً تعد مشكلة القراءة والكتابة من الرسوبيات التي ظهرت اليوم للسطح، وقد أشار معالي الوزير إلى أن المعلم عليه أن يركز على تكليف الطالب بالكتابة وتخصيص وقت مقتطع من كل حصة للقراءة وهذا علاج جيد وفعال، بل يمكن التركيز على القراءة دون الكتابة (فالكتابة بالقلم تراجعت في عالم العمل اليوم وظهرت الكتابة بلوحة المفاتيح) لكنما القراءة هي أمر حتمي لا مفر منه وهي أساس التعلم، بل نركز على جانب واحد منها وهو «الفهم القرائي» أساس المشكلة وجوهرها فكم طالبًا اليوم (وكم خريجًا أيضًا) يقرأ ولا يفهم أو يفهم جزئيًا ويبتسر المعنى! وهذه مشكلة حضارية في الواقع وأمية مقنعة من نوع جديد وخطير، ولا أظنها تخفي على متبصر، وخلاصة القول إن الحل هنا يكمن في قياس مهارة محددة مركزة وذات قيمة جوهرية كبرى في غاية التعليم كمحرك اقتصادي وحضاري، التركيز على مهارة خاصة فريدة بعينها سيسهل القياس النوعي ويجعله قابلاً للتحقق والانتشار مع الموثوقية بدرجة كبيرة.
في القياسات التتبعية جرت العادة على مقارنة الأرقام عبر السنوات بيد أني أرى أن هناك ما يجب أن تتم متابعته عبر السنة كل ثلاثة أشهر لترتبط عملية القياس باتخاذ القرار التدخلي والتوجيهي في الوقت المناسب خاصة في المجالات العلاجية (أو التطويرية/التحسينية) فعندما نتصور مثلاً أصحاب القرار ينظرون إلى تتبع نتائج تقدم تحسين الفهم القرائي كل ثلاثة أشهر سنطمئن على تعليمنا أكثر. ولك أن تضع بجوار هذه المهارة المهمة ثلاث أو أربع مهارات وقيم أخرى تستهدفها العملية التعليمية لهذه السنة... سيكون لذلك أثر كبير جدًا، وقد أسلفت أن نجاح مثل هذا التتبع تحتاج إدارته لأفراد مؤهلين ومدربين مع توفير الأدوات والخدمات المناسبة والمخصصة لذلك وليس الاعتماد على الكوادر المتوافرة كتكليف إضافي! وللحديث بقية عن المستوى الثاني وهو قياس النواتج خارجيًا.