د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
استطاع الإعلام الرقمي أن يهزم وربما يئد أفكارًا كانت موقعَ التقاءٍ بين المختلفين مهما شطَّت مزاراتهم ومداراتهم، وقد يبدو هذا إيجابيًا في الإطار النظري من حيث تحريك الراكد وتسييل المتجمد وتعزيز التنوع والتجدد، لكنه -في الإطار الواقعي- مبطنٌ بالاستسلام للسائد الجارف الذي افترض أشكالًا جديدة للمسارات الثقافية، أهمها: عدم التمييز بين الكاتب وسواه من خلال ثلاثية: «اللغة والأسلوب والثقافة»، حيث اعتادت الأجيال أن تتطلع إليها في كتب السلف والرواد وكتاباتهم فوعوا عنهم ومنهم، وامتاز أكثرهم بامتلائهم المعرفي ولغتهم الراقية وأسلوبهم الجميل، وكادوا يُؤْلَفون فيعرفون بسماتهم الحَرفية ولو غابت وسومُهم، وما الظنُّ أن القارئ الحريص سيُخطئ في تمييز «الجاحظ والرافعي وطه حسين ومحمود شاكر» -وهم أمثلة لا أكثر- انطلاقًا من أساليبهم ولغتهم ومرجعيتهم.
** اختفت هذه العلامات الفارقة أو تكاد، ولم يعد أحدٌ ينعى على أحدٍ مجيءَ طرحه دون ملامحَ تَفصله، أو لغةٍ تُفصله، أو ثقافة تؤصله؛ فالتركيز على الشخص قبل النص من جانب، وعلى محتوى النص المُشعِل المُشغِل من جانبٍ ثانٍ، أما «ثلاثية» الخطاب وفيها: هُوية الكاتب وإيقاعات الكتابة وأوسمة التميز فما عادت ذاتَ شأن، بل لم يعد مَعيبًا أن تُهمل اللغة وتهجر البلاغة ويتوارى الإسنادُ والاستشهاد؛ فليكتب من شاء ما شاء فسيفتقد الآسي ويجد المُواسي.
** الحكاية هنا لا تمس ضعف اللغة والأسلوب والثقافة فقد ضجَّ الفضاءُ برثائها بل تتجه نحو تبرير ذلك وتمريره، وكأنها لقائط لا بواكي لها، ولن نعود إلى شيخنا عبدالقاهر الجرجاني 400-471هـ الذي رأى أن الاسلوب -وهو ضرب من النظم كما أسماه- يتطلب وضع الكلام وفق مقتضيات علم النحو وقوانينه وأصوله ومناهجه، وأيقن أن الألفاظ مغلقة المعاني وأن الإعراب مفاتيحها، كما لن نقف عند العلاقة بين اللغة والعقل واللغة والمنطق واللغة وصيغ الخطاب واللغة وحالات المخاطَب إذ يكفي أن نتأمل في عبثية اللغة وترف الأسلوب وهامشية الثقافة ونتألم ممن يرونها فضلاتٍ لا تعنينا أمام نجومية المُلقي وسطحية المتلقي وضحضاح التلقي.
** ولعل الدكتور زكي مبارك 1892-1952م لم يعْدُ الحقيقة حين طالب الكاتبَ -في رسالته للدكتوراه بجامعة باريس عن «النثر الفني في القرن الرابع الهجري»- أن يكون كاتبًا أي «قديرًا على تلوين أفكاره وخواطره تلوينًا يستهوي العقول والألباب؛ فليس كلُّ مفصحٍ عن غرضه بقادرٍ على جذبنا إليه وإنما يستهوينا الكُتَّاب الفنانون الذين يجمعون بين جودة المعنى وجمال الأداء».
** هذا ما نطالب به وبهم، وسيبقى «المحافظون» على سلامة اللسان والبنان وجمالهما واستنادهما إلى أرضيةٍ معرفيةٍ جادةٍ مطالَبين بعدم التواري في زمنٍ عمَّت فيه العُجمة والعجلة والعامية والركاكة؛ فاللغة هُوية، والأسلوب مسار، والمعلومة الموثقة المدققةُ فاصلٌ بين النور والديجور، وقديمًا قالت العرب: «ما كلُّ بيضاءَ شحمة».
** الهذَّارُ جُبار.