عبدالعزيز السماري
الأيديولوجية هي مجموعة من المعتقدات والقيم المعيارية التي يمتلكها فرد أو جماعة لأسباب أخرى غير معرفية، ويُستخدم المصطلح بشكل خاص لوصف نظام الأفكار والمثل التي تشكّل أساس النظرية والسياسة الاقتصادية أو السياسية، وفي العلوم السياسية يتم استخدامه بمعنى وصفي للإشارة إلى أنظمة المعتقدات السياسية، وكانت أحد أهم أسباب الفوضى والحروب الأهلية الفجوات والتباعد بين الأيدولوجيات السياسة، فمسألة بالانفراد بالسلطة وقمع الأيدولوجيات المنافسة سببه تلك الفجوات بينهم، وكان تدني مستويات الوعي يساهم في احتدام الصدام.
الوعي السياسي وأعني المتحضر والمتناغم مع حالات السلم والتعايش مرتبط بذوبان الأيديولوجيات وباختفائها في عقول الناس، ولعل التجربة الجزائرية تتحدث عن ذلك، فالوعي السياسي منذ 1990 في زمن الصراع المحتدم بين قوى جبهة الإنقاذ الإسلامية، وبين الدولة ممثلة في الجيش، تغيّر كثيراً، فالفجوة بين فئات المجتمعات تلاشت إلى حد ما بسبب تطور الوعي السياسي، ولهذا السبب ظهر الشارع الجزائري مثل ألوان الطيف في الربيع، وقد وصلت الرسالة إلى السلطة، فكان القرار بالتقدم إلى الأمام.
في فرنسا التي كانت تمثِّل الرمز للعداء الأيدولوجي ممثلاً في ثورتها الدموية، انخفضت نسبة الفرنسيين الذين يدعمون الانقسام الإيديولوجي خلال العقد من 1981 إلى 1991، بنسبة 10 %، أي من 43 % إلى 33 %، ويعتبر هذا الاختفاء التدريجي للعداء الإيديولوجي مفاجئ، بالنظر إلى أن الانقسام الأيديولوجي الحاد في فرنسا، والذي نشأ عن الثورة الفرنسية في 28 أغسطس 1789، وفي مقالته المعنونة «نهاية الانقسام بين اليسار واليمين: القضية الفرنسية»، يشير آلان دي بينويست إلى الاختفاء التدريجي للأيديولوجيات السياسية التقليدية في كل من الأحزاب الاشتراكية والمحافظة.
الوعي السياسي العربي ربما بدأ أول خطواته إلى الأمام، والوعي في الشرق لم يكن يوماً ما حول اليسار واليمين، ولكنه كان وما زال أكثر تعقيداً من غيره، في وجود أيديولوجيات تملك الحلول ومختلف الحلول لجميع المشكلات سواء في بعده الديني أو القومي، وهي مرحلة متخلّفة في الوعي، ولكن حتماً سنتجاوزها، ولعل ما يجري في الجزائر دليل على بداية اختفاء الأيدولوجيات المتناحرة حول السلطة، وقبول مبدأ التعايش والاتفاق على دستور جديد يلغي مرجعية الأيديولوجيات المسيّسة..
الحقيقة لا تنتمي إلى اليمين ولا اليسار أو إلى طائفة محدَّدة أو حزب قومي اشتركي، وإذا كان على رموزهم أن يجتمعوا في يوم من الأيام حول الوطن، فلن يكون ذلك فقط في إنكار ما هم عليه، ولكن في الذهاب إلى الأمام من أجل التوفيق بين توتر تطلعاتهم الأساسية داخل أنفسهم، ومن ثم تجاوز أطماعهم في السيطرة خلف أفكار لا تغني ولا تسمن من جوع، وخلاصة الأمر: هي مسألة تطوير مفاهيم سياسية جديدة تتجاوز القومية والطائفة والإقصاء والتسلّط، فالجميع سواسية كأسنان المشط تحت مظلة القانون.
خلال الأسابيع الماضية، سادت النبرة الهادئة في شوارع الجزائر بين مختلف الأطياف، وساهم في ذلك ما تبعها من قرارات سياسية من أجل بدء مرحلة جديدة في بلاد عانت الأمرين من الاستعمار والتطرف وحكم العسكر، ومن ثقافة الغضب التي كادت أن تعصف بالسلم الاجتماعي في البلاد، وقد يكون هذا تحولاً تاريخياً، وبداية عصر جديد، جوهره احترام الإنسان مهما كان مختلفاً في أفكاره أو هيئته، فالعالم يتقدَّم نحو مستقبل أكثر سلماً من ذي قبل.